من أعاجيب فريمو (1960) الأخرى، أنَّه رجل بصلاحيّات
لا تضاهى. مسؤول يعي خطواته، ونادراً ما يخرج عن طوره.
وللعلم، هو يدير مهرجانين كبيرين أحدهما عند كروازيت
كانّ، والثاني أبعد قليلا في مدينة ليون حيث أسس فكرة،
لا مثيل بفرادتها، مخصّصة برُمَّتها الى النصّ
الكلاسيكيّ السينمائيّ العالميّ ورموزه ونجومه،
متحصّناً بمعهد الأخوين لوميير ومرجعيتهما التاريخية
في ولادة الفن الأكثر شعبية في العالم. أن نفوذه
وكاريزما شخصيَّته يجعلان منه أقرب الى شخصيّة علي
بابا الأسطورية، الحارس لمغارة دوليّة لا قرار لها،
تضم مئات الأف من أسماء مخرجين وفنيين وكتاب وأقطاب
صناعات وتوزيع وتداول وتخطيط سياسات وهيمنة وعابر
للمساءلات الدينيّة أو الاعتباريّة.
حارس السّينما وحوّزاتها المترامية الأطراف. من هنا،
يعي الجميع أيْ معدن صُبَّ منه هذا الفرنسي المتأنق من
دون افتعال، الحركيّ من دون ادعاء أو ضجيج، ليكون
عليهم القبول بما يقرّره بكياسة مبدعين، بسبب درايته
المعلوماتية وإستقطابه الإداري المنظم الى حد لن يفلت
من بين يديه أيْ نتاج فيلمي، يُصنع في أيْ بقعة في
العالم، يستحقّ أن يُضمّ الى أمجاد كانّ. النّاظر الى
قوائم خانات المهرجان وعناوين أفلامها وأسماء
مخرّجيها، يفهم الى أيّ مدى هي سطوته في "التوزيع
الخانوي". ليس من الوارد لديه الامتثال لأيّ كان. في
دورة العام 2023، كان تصلبه مع المعلّم الإسبانيّ
فيكتور إريثيه، الذي هدّد بسحب "وصيتّه" السينمائية
"أغمض عينيك"، ما لم يتأكّد أنّها جُدوِلت ضمن
المسابقة حديث الأوساط كافة، بيد أنَّ "القيصر" لم
يتراجع أو يهادن أو يماري، وعُرض العمل المميَّز ضمن
خانة "كانّ بروميير" كما هو مقرّر، رغم أن الشريط كان
يستحق بالفعل ضمّه الى المسابقة.
*****
لم تخل الدّورة الـ78 من إشاراته عن "اللعبة الرائعة"
في دعوة فلان من المخرجين، ، أو استقدام عنوان أرتأى
أنّه لا يضيف شيئاً سوى البهرجة، مثلما حدث مع الفيلم
الأخير من سلسلة "المهمّة المستحيلة: الحساب الأخير"،
متيحاً الفرصة مجدّداً الى نجمه توم كروز استعراض
قامته القصيرة على السجّادة الحمراء، في وقت يسعى
جاهداً الى تخفيف قلق هوليوود من ظنون أنْ أفلامها
ستُحرق إعلامياً ونقدياً حين تُعرض في قصر لوميير، أو
أن يضع أسماء قامات في خانات ثانوية لها عناوين
طنّانة، كما هو الحال مع الألمانيّ التركيّ الأصول
فاتح أكين وجديده "أمروم" مع نجمته ديان كروغر، وهو
اسم جزيرة منعزلة، تدور فوق أراضيها الزّراعية محن
"الأسابيع الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، حيث
يكشف صبي سرّ عائلته. يتحدى ناننينغ، البالغ من العمر
اثني عشر عاماً، البحر الغادر لصيد الفقمات، ويذهب
للصيد ليلاً، ويعمل في المزرعة القريبة لمساعدة والدته
في إطعام أسرته. على الرغم من المشقة، تبدو الحياة على
هذه الجزيرة الجميلة التي تعصف بها الرّياح وكأنَّها
جنّة. لكن، عندما يحلّ السلام أخيراً، يُكشف عن تهديد
أعمق: العدو أقرب بكثير ممّا كان يتخيّل". (بيان
الشركة المنتجة). المعروف أنَّ أكين سحب فيلماً سابقاً
من ترشيحات كانّ، حين علم باستبعاده من المسابقة!. رغم
ذلك، كان سحر فريمو له بالمرصاد، فخضع لعرض جديده في
قسم "عروض أولى"، الذي يستضيف أيضا أخر أفلام
الفيليبيني لاف دياز "ماجلان" مع الممثل المكسيكي غايل
غارسيا برنال في "دور البحار البرتغاليّ الشاب الطموح
الذي قاد ثورة على سلطة الملك الذي لم يدعم حلمه
بأكتشاف العالم. فأقنع التاج الإسباني بتمويل رحلته
الجريئة إلى أراضي الشرق الأسطورية. كانت الرحلة
مُرهقةً فاقت التوقّعات، حيث دفع الجوع والتمرّد
الطاقم إلى أقصى طاقتهم. عند وصوله إلى جزر أرخبيل
الملايو، تغير رأي ماجلان. أصبح مهووساً بالغزو
والتحول، مما أشعل انتفاضات عنيفة خارجة عن سيطرته.
هذه ليست أسطورة ماجلان، بل حقيقة رحلته". (شركة لوس
بوكس)
صاحب "غلوريا" (2018) و "امرأة ساحرة" (2017)، والحائز
على جائزة الأوسكار التشيلي سبستيان ليليو، ارتضى أنْ
يعرض شريطه "الموجة" في الخانة ذاتها، رغم الضمانة
التي لا يرتقى لها الشك في ضمه الى مهرجان فينيتسيا
السينمائي وقائمة مسابقته المرموقة، لكن للكروازيت
قول أخر. فيلم موسيقي مستوحى من موجّة العصيان المدنيّ
النسويّ التي اجتاحت تشيلي في ربيع عام 2018، والتي
أطلق عليها اسم "مايو النسويَّة"، ووصفت بأنّها انقلاب
حاسم في الوعي الشعبيّ الجمعيّ في ما يخصّ حقوق
المرأة.
*****
لا يملك المرء تفسيراً للكيفيّة التي أقنع بها فريمو
صاحب "أفعل الشيء الصواب" (1989) المخرج الأميركيّ
سبايك لي، بعد ترؤسه لجنة التحكيم قبل أعوام قليلة، في
قبول عرض عمله الأخير "الأعلى والأدنى" خارج المسابقة،
ولم تشفع كما يبدو بطولة الممثل دينزيل واشنطن بمكانة
أرقى لهذه الأفلمة الزنجية المفاجئة لكلاسيكية الجهبذ
الياباني أكيرا كوروساوا!. مثل واشنطن، لم يجد اسم
مواطنته جودي فوستر ورنّة نجوميتها، وبرفقتها نخبة
فرنسية مجيدة مثل فيرجيني إيفيرا وماتيو إلمريك وفنسان
لوكوست ودانيال أوتول، مبرراً لإعلاء تكريم مشاركتهم
في فيلم الفرنسيّة ريبيكا زلوتوفسكي "حياة خاصة"،
المعروض خارج المسابقة أيضاً. تؤدي فوستر هنا دور
طبيبة نفسيّة شهيرة تدعى ليليان ستاينر، تقرر التحقيق
بنفسها في ملابسات وفاة أحد مرضاها، مقتنعة إنْ
القضيّة هي تصفية متعمدة وجريمة قتل.
أخيراً، لا أحد سوى فريمو يقف في وجه الجميع، ويبرمج
فيلماً من أنتاج منصّة أميركيّة، دون أنْ يستشير جهة
أو جمعية أو نقابة محليّة (من دون أنّ نغفل بقاء
المنصة الصينية "تك توك" ضمن الداعمين الأساسيين
للمهرجان رغم أنف كارتلات هوليوود). الرجل نفسه حاول
جاهداً لسنوات كي يُقنع "اتحاد العارضين
الفرنسيّين"(أصحاب دور العرض في البلاد) كي يستثنوا
"نتفليكس" وأفلامها للمشاركة في مهرجانه، التي يلتقطها
بيسرغرماءه في ليدو فينيتسيا، لكن بلا فائدة. فرؤوس
النّقابيين أكثر عناداً من رأس هذا الأنيق
بأرستقراطيّة لافتة. يذكر الجميع، كيف علا صفير
استهجان الاعلاميين عند بدء العرض الصّحافي الخاص
لشريط الكوري الجنوبي بونغ جون هو "أوكجا" (2017)، حين
ظهر شعار المنصّة بلونه الأحمر القاني وحرفه الأثير،
معلنين عن غضبهم، ومساندتهم لزملاء أصرّوا ـ عن حق ـ
على أرضاخ "الإمبرياليين الأيديولوجيين" الجدد في
هوليوود على احترام الاتّفاق الحاسم الذي "لا يُسمح
بعرض أيْ فيلم على منصّات البث إلا بعد 36 شهراً من
عرضه في دور السينما الفرنسية".
لن نعرف ملابسات مغامرة (أعجوبة) فريمو وكيفيّة
"تسريبه" جديد منصة "أبل أوريجنال فيلمز" الأميركية
إنتاجاً وتوزيعاً "بونو: حكايات استسلام"، إخراج
الأسترالي أندرو دومينيك ضمن العروض الخاصّة، إلّا
إننا بالتأكيد سنشاهد المغني والناشط والمؤلف
الإيرلندي الشهير بونو (اسمه الحقيقي بول ديفيد هيسن،
1960) وزملاءه في فرقة "يو تو"، يتهادون على درجات
السّلالم الشهيرة لقصر السّينما، قبل أن يلتقيهم
"القيصر" وبمعيَّته رئيسة المهرجان إريس كنوكلوب عند
البوابات الزجاجية، ضمن تقليد كانوي صرف، يخضع له
الجميع بلا إستثناء. شريط دومينيك، كما تقول منصة
"أبل" التي انخرطت بعزم في الإنتاج السينمائي، مستوحى
من مذكرات الفنان الأكثر مبيعاً "الاستسلام: 40 أغنية،
قصّة واحدة"، منفذ بتقنية 8كي مع تسجيل صوتي مكاني،
تضمن للمرة الأولى تسجيلاً فيديوياً شديد الدقة
والنّقاوة البصريَّة بزاوية 180 درجة. يسرد بونو
مسيرته المجيدة منذ ولادة في دبلن، وتأسيسه الفرقة
والنجاحات المذهلة التي جعلت منها واحدة من أيقونات
الموسيقى العالميّة. تقول المنصة: " يعيد هذا الفيلم
الوثائقيّ الطويل تصوّر عرض بونو المسرحيّ الفرديّ،
الذي نال استحسان النقاد، "قصص الاستسلام: أمسية من
الكلمات والموسيقى وبعض الأذى..."، حيث يغوص في أعماق
حياة مميّزة، ويتعرّف على عائلته وأصدقائه وإيمانه
الذي شكّل تحدياً ودعماً له. يكشف بونو، خلال العرض،
عن قصص شخصيّة عن رحلته كابن وأب وزوج وناشط ونجم روك.
يتضمّن العرض لقطات لم تُعرض من قبل من حفلات بونو في
مسرح بيكون، حيث يؤدي العديد من أغاني فرقته
الشهيرة التي شكّلت حياته وإرثه".
*****
يذهب رؤساء "كانّ" ومديروه الى هدوء تقاعدهم (مثل جيل
جاكوب)، أو صمت قبورهم (مثل جان كوكتو)... لكن الجليّ
أنَّ تييري فريمو سيبقى حيويّاً حين يستقبل ضيوفه،
غامراً أياهم بضحكته الطفوليّة، ونطاطاً بين صالات
كانّ حين يقدم خياراته المتضاربة المستوى والأهميّة،
ومستمتعاً مع فريقه، الى أقصى حدود الامتنان،
بالمُكْنَة التي أمدتهم بها ضميرعصرنا المضطرب
وروحه.... السينما!. |