سينما النرويجي يواكيم ترير ماكرة، لِأنّ هواها يكمن
في وضع نهايات متعدّدة لحكايات أبطال، تنال منهم صروف
حيوات لاهية، ونزعات أنانيّات مفرطة (هو جانب عصابي
يصفه المخرج الخمسيني بـ"خجل نرويجيّ مميز)، وطموحات
تغالب للفوز بحيز من مساكنة جماعيّة تفرض تنازلات
قاسية. وفوق كُلّ هذا، بطر عائلي يوصِّلهم الى حواف
اضطرابات وانهيارات بعضها قاتل، كما حدّث للبطل الشاب
أندريس في "أوسلو، 31 أغسطس" (2011) الذي لا يجد سوى
الموت انتحارا كملاذ من عزلته وجزعه من استجابات خلانه
وصدّودهم.
يُبرّر تعدّد النّهايات هوس هذا المخرج الموهوب
بالثلاثيات السينمائيّة التي تضمّ في الغالب شخصيتين
تتعايشان في ظروف طبقيّة عالية الجودة لكنّها تفتقر
الى حدّ بائس من جذوات عواطف حقيقيّة، تثبت استكفاء
داخليّاً يحافظ على صفائها وتوازنها وأيمانها بجدوى
حياة عمليّة وماديّة. كلاهما ـ في كُلّ حكاية ـ
يشاركان الحيّز والعاطفة النّاقصة والمحيط الجماعيّ
المتقلب المزاج، يتصارعان بطرق معقّدة على تحقيق
مصالحات عصيّة، تنشد تسامحاً يريده الجميع بيد أنّهم
يحبطون تساميه. من هنا، يصبح لزاماً على أيّ منهما
ايجاد نهايته، حتى وإنْ تتمّ في مقهى أو على قارعة
طريق أو في غرفة بألوان بلاستيكية أو على سرير موت.
******
أبطال ترير شباب يافعون، تخترق كياناتهم حالات كسل هي
نتاج اللّا تنافس في مجتمع شبه اشتراكي النزعة حيث
التّوازن الحياتي مصنّف بروح مثالية، ما ينعكس بوضوح
فاقع على حركاتهم الجسديّة وتلامساتهم، ومثلها
النّظرات التي هي في الغالب هّلامية، ولا تذهب الى
تقاطعات ملموسة بين أيّ من الشخصيات. نعم، هم يتواجهون
وجهاً لوجه بيد أنّ ترير ومدراء تصويره، يختارون زوايا
ماكرة، تدفع بالمشاهد الى الإحساس بالضّيق أن تمَعّن
بمسار خزراتهم، فهي غير مباشرة وغالبيّتها توجه الى
الكاميرا، أو الى أماكن خلفية، ما يفسر غياب (أو شحة)
ما يسمّى بـ"لقطات وجهة النظر"، وهي عنصر أخر من
مراوغات سينما ترير، حيث نكون كمشاهدين في موقع تّواطؤ
مع شبابه الذين لن نرى عبر عيونهم ما يرصدونه أو
يثمنونه أو يريدون لفت الاِنتباه الدّراميّ له، أو حتى
إيصال معلومة بصريّة عن مواقع تواجدهم. وما علينا سوى
مراقبة أمرين: الأول، التأطيرات البصريَّة المتعلقة
بتحركاتهم، وما يتبعها ـ ثانياً ـ من ترميزات أو
إشارات مبطنة، تتوافر بدقّة لافتة في اكسسوارات وألوان
وهندسة أمكنة.
شرع ترير في لعبه السينمائي وتّقنيّاته هذه منذ المشهد
الإفتتاحي لباكورته "تكرار" (2006)، وهي الحركة الأولى
من ثلاثيّة أوسلو الشهيرة، حيث نقابل شابين يرتديان
قميصين أسودين، ويحملان ظرفين كبيرين، يضمَّان أوراقاً
يجب أنْ تغيّر حياتهما، وهما واقفان عند صندوق بريد
أحمر مُعلّق على حائط أبيض، قبل أنْ يقول أحدهما ما
يصبح لاحقاً لعنتهما المشتركة: "كُلّ شيء يبدأ من
هنا!". خلال هذا المشهد الذي يغطي أقل من دقيقتين لن
تتقاطع نظراتهما سوى مرَّة واحدة، فيما تكَّرم ترير في
تعريفنا بلقطة مقربة الى عنوان ناشر محلّي، يوجهان
نصيهما اليه على أمل أن يخترقا سوق الكتب الروائية
الشديدة التنافس. بعد تسع لقطات فقط (منها اثنتان
مقربتان "كلوز أب")، أخرها للظرفين مستقرّين داخل
صندوق البريد، يفترض ترير انتصار مستقبلهما الخياليّ
مع لقطتين ماكرتين لغلافي كتابين أنيقين، ولاحقاً
صورتيهما على الغلافين الأخيرين. بما أن المشهد يدور
خارجاً، كان خيار ترير واحداً في جعلهما منفردين من
دون أن نلاحظ أشخاصاً عابرين, أنَّهما في منطقة وسطية
(ليمبو) مدينية، حيث لن يرتسم الحظ سوى الى شخص واحد!.
******
يبقى هذا الحظ وملابساته ولا بركاته عنواناً لجميع
"حركات" الثلاثيات المقبلة لهذا المخرج الموهوب، ومنه
مأساة الشاب أندريس في "أوسلو، 31 أغسطس" الذي نراه في
لقطات مشابهة داخل غرفة مظلمة، جالساً عن حافة سرير
تضطجع عليه حبيبته، لكنهما لن يتقاطعا النّظر. كُلّ
منهما محروس في حيّزه وتأطيره. هذا بيان بصريّ كئيب،
مُختلق، خياليّ لكائن مستوحد ومرّجوم، سنراه بعد 94
دقيقة جثة هامدة في غرفة أخرى، بعد جرعة مخدرات زائدة.
"ينتحر" (وهي كلمة لن تردّ في الشريط ابداً) الشاب
الوسيم الذي سُمح له بمغادرة عيادة إعادة تأهيل
المدمنين لإجراء مقابلة تتيح له عودته الى سوق العمل
اليوميّ، بيد أنَّ خيباته الثنائيّة مع صديق عمر تخلّى
عن إدمانه، وهو الآن زوج وأب سعيد، ومثله، حبيبة شابّة
آثرت الانتصار الى مستقبلها، متّخلية عنه بسبب عاداته،
تدفعه رغم محاولات تأقلمه (وجيلاناته ضمن) مع محيط
العاصمة وبشرها وحفلاتها ومقاهيها وشوارعها الصغيرة
وعمران مبانيها الحجرية الى العودة لظلام إدمانه
وفنائه.
ما هو مدهش في هذا المنجّز الباهر، أنْ ترير يرصد
بفطنة درامية موت العاطفة المشتركة. أنْ جميع الشباب
من حول أندريس يتحدث عن انتصارات وهميّة، ولا يخجلون
من التباهي بتقليدهم موضات أجنبية (حركة "البانك"
البريطانية، الأتكيت الفرنسيّ، الهوس الدّنماركي
وغيرها). يمارسون الجنس كواجب عابر، ويضمنون مالاً في
حساباتهم البنكية من دون مشقة، ويرتادون مقاصف ويدارون
أحوالهم برفاهيات عابرة.
وحده البطل الشاب يسعى بمشقّة الى أن يكون شخصاً
نزيهاً. في مشهد المقابلة داخل مكتب رئيس تحرير المجلة
الشّهيرة، لن يتردّد في قول الحقّ: "أنْ هناك ما
ينْقصكم... وشعبيتكم مبهمة. أنتم تقلدون مطبوعة أخرى
ما يجعل تميزكم أمراً عصياً". يرفض أندريس (34 عاماً)
العمل بعد أنْ يصرّ المسؤول على فكرته في الانفتاح على
السوق الإنكليزيّة: "وإلا سنفقد تبرّعاتنا
الشّعبيَّة". يجري هذا المشهد، الذي سيقرر مصير الشاب
بلا ألفة. أنّه صفقة خاسرة مسبقاً، نجد صداها المعاكس
في واحد من أفضل المشاهد في السينما الأوروبيّة
المعاصرة، حين يجلس مكلوماً في مقهى (هناك لقطات سريعه
لصديقه توماس جالساً بمفرده في منتزه، وكأنّه ينعى
رفيقه)، مصوَّباً وجهات نظره وبلفة غير مسبوقة الى
محيطه، منصتاً الى زبائن غرباء يتبادلون هموماً
متواضعة. أنّها سلواه الختاميَّة التي يعلن عبرها
وببطء حكائي معكوس (لأنّه صامت طوال المشهد) هزيمة
كيانه وانهيار قناعاته على وقع كلمات شابة تقرأ
أحلامها: "أريد أنْ أتزوج، أنجب، واجوب العالم. اشتري
منزلاً، وأحظى بعطلات رومانسيّة. وطوال يوم كامل لن
أكل سوى الآيس كريم!، واحافظ على وزني المثالي. اكتب
رواية عظيمة. ازرع شجرة، واعوم مع الدلافين. أعيش حتى
أبلغ المائة، وأبقى متزوجة حتى مماتي. أتغلب على
مخاوفي، واستلقي لمراقبة الغيوم طوال يومي. أفوز
باليانصيب، وأكون محبوبة الجميع!". عند ختام أحلامها،
تحمل النّظرة الأخيرة لأندريس لمحة تساؤل باطنيّ
وقدريّ: أنحن رهائن بحث مزمن عن سعادة أبديّة لن
يحققها سوى الموت؟. في مساء يوم 31 أغسطس، يتوقّف قلبه
والحقنة مزروعة في ذراعه. هذه ليست النّهاية المطلقة
للفيلم، إذ تمتد روحها نحو الخارج، وتخزر حركيّة
حياتنا الأزليَّة، قبل أنْ تنسحب كاميرة مدير التصوير
فيكتور أيهر لاحقا، وتكشف عن واجهة بيت فاره بمعمار
أصيل، تحف به أشجار وتواريخ ومآسي منها فناء أندريس
(الطبيب والممثل أندريس دانلسن ليا الذي شارك في جميع
أشرطة مواطنه النرويجي).
أنّها الواجهة ذاتها التي يبتدأ ويختتم بها المخرج
ترير جديده "قيمة عاطفيَّة"، الحائز على الجائزة
الكبرى للدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو 2025) لمهرجان كانّ
السينمائيّ، معلناً أنَّ نهاية الفيلم السابق تصبح
بداية لاحقه لثلاثية ثانية!، فالدّارة الواسعة التي
وكأنَّها مازالت تستضيف طيف الشاب المنكوب، هي الأن
خشبة مسرح متقشّف نورانيّ، تجري بين جدرانه وأمام
نوافذه وتحت هواء غرفه معركة طاحنة حول رباط أسري متشظ
ومتخاصم وغارق برِيباته.
"يجبرنا" ترير على التّعرُّف، ضمن تجهيز سينمائيّ من
فصول عدّة، بمُلمَّات عائلة نرويجيّة وشياطينها وخلل
ديناميكياتها، حيث لا يلتقي أفرادها إلّا كثنائيّات
غير متكافئة كيانياً وسلوكاً. الشقيقتان نورا وأغنيس
من جهة، والأب غوستاف ونجمته الأميركية راشيل من أخرى،
بما يحيلنا الى الاِستراتيجية عينها التي اعتمدها صاحب
"ثيلما" (2017) في إشادة المعمار الحكائي لرائعته
"أسوأ شخص في العالم" (الحركة الأخيرة من ثلاثية
أوسلو، 2021)، ومقاربته مداراً عائلياً لولبياً لبطلته
الشابة يوليا المتفتّحة والساعيّة الى حب نابض لا
يوفّره لها عشيق بذكوريّة متسلطة. نقول مداراً
لولبياً، لأنَّ الحكاية تتمّاكر حول رحلة ذاتيّة،
تقودها الى ما نظنه تهوّيمات عابرة (تتخيل نفسها
عجوزاً شمطاء مع وليد تأكله وحوش كارتونية)، لكنَّها
تنتهي كوصلات عاطفيّة خاطفة، تكشف للمشاهد خلل حياتها
وخيبة ظنونها "أنني أقف عند هامش حياتي، وأودّي دوراً
هامشياً"، تقول من بين دموعها.
****** |