برلين – لم يكن مفاجئا، بالنسبة لكاتب هذا المقال، أن يفوز الفيلم
الروماني الطويل “لا تلمسني” بجائزة “الدب الذهبي” في مهرجان برلين
السينمائي الذي أعلنت نتائجه مساء السبت، فالفيلم، الذي يمكن
بالطبع الخلاف بشأن مستواه الفني، كان الوحيد من بين أفلام
المسابقة الـ19، الذي يخرج عن المسار التقليدي ويجنح إلى التجريب
الفني في الشكل واللغة والأسلوب، بينما تلتزم أفلام المسابقة
الأخرى بالتقليدية سواء في ما يتعلق بسياق السرد أو أسلوب الإخراج،
مع ضرورة الإقرار ببراعة الكثير من مخرجي هذه الأفلام في رواية قصة
تتضمن على نحو ما أفكارا إنسانية تثير الفكر.
يتضمن الفيلم الروماني المتوج بـ”الدب الذهبي” في مهرجان برلين
السينمائي الـ68، المعنون بـ”لا تلمسني”، وهو من إخراج أدينا
بنتيلي، قصصا لثلاثة أشخاص تتقدمهم امرأة في الخمسينات من عمرها،
تروي علاقتها بالتلامس الجسدي وخشيتها منه، يقوم بتدريبها، أو
بالأحرى، بمناقشتها رجل سبق أن مر هو نفسه بتجربة مماثلة، وربما
أنه كان قد صدم في البداية من اكتشاف ميوله المثلية، ورجل آخر من
المعاقين يعاني من ضمور عضلات الساقين والذراعين وتشوّه في الوجه،
لكنه يتعلّم كيف يحب جسده ويتعامل معه، وهو يعبّر عن تشوقه لممارسة
الجنس مع امرأة.
إنها شخصيات ترغب في التلامس الحميمي مع الآخر، تشعر بالرغبة
والخوف في الوقت نفسه، وهذه المشاعر المتضاربة تتم مناقشتها عبر
الفيلم التسجيلي-التجريبي، الذي يستغرق أكثر من ساعتين من الحوارات
أمام الكاميرا داخل أماكن مغلقة، من خلال المواجهة المباشرة بين
هذه الشخصيات وأقرانها أو قريناتها وهم جميعا على وعي بوجود
الكاميرا وبأن اعترافاتهم وتعبيرهم عن هواجسهم يتم تسجيلها لكي
يشاهدها الآخرون.
علاج جماعي
“لا
تلمسني” فيلم يقترح نوعا من “العلاج الجماعي” النفسي عن طريق
البوح، والتدرّج في التعامل مع الحالة، مع اللمس والتلامس، ولا شك
أن الفيلم يتضمن الكثير من الأفكار الفرويدية التي تتعلّق بالخوف
من الجنس، لكنه يعكس شعورا حادا بالفراغ النفسي والعاطفي.
وصاغت المخرجة الرومانية فيلمها في أسلوب تسجيلي، لكن دون أن تخضعه
لنسق مألوف في السرد، ودون استخدام الرسوم البيانية أو المعلومات
أو التعليق الصوتي من خارج الصورة، بل يعتمد الفيلم أساسا على
التصوير المباشر للشخصيات في مكان قد يكون عيادة طبية أو بيتا
خاصا، مع حضور المخرجة باستمرار وراء الكاميرا، وجميع ما نراه من
شخصيات في الفيلم هي شخصيات حقيقية تتحدّث وتستمع وتبوح بمشاكلها،
ترغب في مواجهتها والتغلّب عليها.
وفي بناء الفيلم الكثير من التداخل بين القصص المختلفة والصور، لكي
تعكس التشوّش الذهني أو التردّد القائم داخل هذه الشخصيات، كما
يتضمن أيضا بعض المشاهد التي قد يراها البعض صادمة بجرأتها في
التعامل مع الجنس، لكن فوز هذا الفيلم بجائزة الدب الذهبي في برلين
لن يساعد كثيرا على رواجه أو عرضه على نطاق واسع ووصوله إلى
الملايين، بل سيظل فقط حبيسا داخل دائرة المهرجانات الأوروبية التي
تهتم بسينما الفن، دون أن يتجاوزها كثيرا.
وتكونت لجنة التحكيم من ستة أعضاء برئاسة المخرج الألماني توم
تايكوير، وقد منحت اللجنة جائزة “الدب الفضي” لأحسن مخرج إلى
الأميركي ويس أندرسون، مخرج فيلم الافتتاح “جزيرة الكلاب”، لبراعته
في إخراج قصة إنسانية مشوّقة من خلال أسلوب التحريك والرسوم. ولا
شك أن الفيلم تجربة بصرية ممتعة، خاصة وأنه ينتقل إلى البيئة
اليابانية المميزة، ويستخدم عددا من الممثلين المرموقين في أدوار
الكلاب بأصواتهم فقط، بالطبع.
جائزتا التمثيل
حصلت الممثلة أنا برون، كما توقعنا في مقال سابق، على جائزة أحسن
ممثلة عن دورها في فيلم “الوريثات” (أو الوريثتان) من باراغواي،
الذي تقوم فيه بدور امرأة في الخمسينات من عمرها، تتراكم عليها
الديون فتضطر لبيع أثاث ومقتنيات منزلها الفخم، والعمل كسائقة
سيارة تنقل صديقاتها من الطبقة الوسطى مقابل أجر.
أما جائزة أحسن ممثل فنالها الفرنسي الشاب أنتوني باجون الذي يقوم
بدور المدمن الذي يلجأ إلى أحد الأديرة النائية لكي يتعالج من
إدمان المخدرات من خلال التعبّد والصلاة، وذلك في فيلم “المصلي”
للمخرج الفرنسي سيدريك خان.
وحصل كاتبا السيناريو المكسيكيان مانويل الكالا وألونسو
رويزبلاسيوس عن فيلم “المتحف” الذي يروي قيام شابين بسرقة بعض
المقتنيات الأثرية العريقة من داخل متحف مكسيكي كبير من دون أن
تكون للسرقة علاقة بالبحث عن المال، ثم فشلهما في بيع هذه
المسروقات، والنهاية المأساوية التي ينتهيان إليها بعد أن تتعقد
جميع الخيوط وتنتهي جميع المغامرات الوهمية بالفشل، إنه عمل ينتمي
للواقعية السحرية مع لمسة واضحة من الميلودراما والتشويق البوليسي.
ونالت المخرجة البولندية مالغورزاتا سموفسكا جائزة “الدب الفضي”،
أي الجائزة الخاصة التي تمنحها لجنة التحكيم عن فيلمها “الكوب”
الذي يصوّر تحوّل عامل يصاب في حادث بعد سقوطه من فوق تمثال ضخم
للمسيح، ثم ما أعقب ذلك من إجراء عملية تجميل له لتغيّر وجهه
وبالتالي هويته، لكنه يواجه بعد ذلك نكرانا من الجميع تقريبا،
ويحمل معاناته معه كما لو كان قرينا للمسيح نفسه الذي يحمل خطايا
البشرية.
ولكن الفيلم مصنوع في سياق كوميدي مليء بالتأملات الفلسفية
المعاصرة عن الدين، الحياة، التضحية والأخوة، بل في الفيلم أيضا
جانب طريف حول “البريكست”، أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي
ومقاومتها المرتقبة لدخول العمال البولنديين.
أما جائزة التقدير الخاص التي منحتها اللجنة لأفضل مساهمة فنية في
مجال الملابس والتصميم الفني، فنالتها الروسية إلينا أكوبانيا عن
فيلم “دوفلاتوف” للمخرج ألكسندر جيرمان الصغير.
مسابقة متوسطة
بوجه عام يمكن القول إن مسابقة مهرجان برلين الـ68 كانت متوسطة
المستوى، مع ملاحظة غياب التحف السينمائية والاتجاه الواضح لتشجيع
أفلام المخرجات والأفلام الأولى لأصحابها، ومنها الفيلم الفائز
بـ”الدب الذهبي”.
وقد يكون فوزه قد جاء تحديدا للتأكيد على هذا الجانب، مع تجاهل
أفلام أخرى ربما كانت أكثر منه جدارة بالفوز منها على سبيل المثال
الفيلم الأميركي البديع “لا تقلق.. هو لن يتبعد كثيرا على قدميه”
لجاس فان سانت، والفيلم الألماني “في الممرّات” للمخرج توماس
ستوبر، والفيلم الإيراني الساخر المختلف تماما عن سائر الأفلام
الإيرانية والذي يتميز بجرأته الكبيرة “الخنزير” للمخرج ماني
هقيقي، والفيلم السويسري “الدورادو” للمخرج ماركوس إيمهوف، وهي
أفلام تستحق أن نتوقف عندها من خلال مقالات نقدية مستقلة.