ملخص
مع مشاركة خمسة أفلام أميركية هذا العام في مسابقة مهرجان
كان (13 - 24 مايو / أيار)، لا شك في أن الولايات المتحدة، سواء تلك التي
تمثلها مرحلة ترامب أو ما قبلها، ستكون محور النقاش والاهتمام.
لا يبدو أن أحدث أعمال المخرج الأميركي
المجدد آري أستر، "إدينغتون" (يتسابق على "السعفة")، سيخيّب التوقعات؛
فمضمونه، في نهاية المطاف، يتجاوز كثيراً، جمالياته التي تسعى إلى تحويل الفيلم من
عمل عادي إلى كيان غريب يهبط علينا من أقاصي الأرض.
تسود في الأعوام الأخيرة نزعة متزايدة لدى بعض السينمائيين
الأميركيين إلى توجيه بوصلتهم نحو أميركا العميقة، تلك المناطق التي يغلب
فيها إلى حد ما لون سكاني واحد، حيث الفكر المحافظ يفرض هيمنته الكاملة،
الهدف من ذلك يبدو واضحاً: تصوير جهل هذه الفئة، وتخلفها، وتعنّتها، في
محاولة لشيطنة أولئك الذين لا ينسجمون مع الصورة المثالية لأميركا، أرضاً
للتنوع والانفتاح. كأن هؤلاء السينمائيين "ينتقمون" في معنى ما، من سكان
هذه المناطق النائية الذين أوصلوا ترمب إلى البيت الأبيض.
فيلم آري أستر يأتي في هذا الإطار، هجاء سياسي لاذع يعيد
إحياء مفردات الوسترن، هذا النوع السينمائي الذي يعد من بقايا الماضي،
ليغرف من الحاضر، ويثير سجالاً واسعاً حول الراهن الأميركي بما يحمل من علل
واضطرابات وهواجس جماعية. تدور أحداث الفيلم في زمن الجائحة، وتحديداً في
مايو (أيار) 2020، أي في اللحظة التي كان من المفترض أن نكون فيها في
مهرجان كانّ لولا إلغاء تلك الدورة بسبب تفشي وباء كوفيد 19.
أما بطل هذه الكوميديا السوداء، التي تنزلق عمداً من منطقها
وتفلت من قبضة العقل، فهو شريف (واكين فينيكس) لبلدة صغيرة تدعى إدينغتون
تقع في ولاية نيو مكسيكو، يرفض هذا "القبضاي" رفضاً قاطعاً الإجراءات
الاحترازية ضد الوباء، ولا يؤمن حتى بوجوده في بلدته. في ظل هذا الإنكار،
تسود أجواء محلية مشحونة بالتوجس، وتنتشر نظريات مؤامرة هزلية لا تُصدّق
لشدة طرافتها وغرابتها. اختيار هذه اللحظة الزمنية (لحظة كوفيد) ليس أمراً
عرضياً، بل تفصيل جوهري يمنح الفيلم بعداً تأويلياً؛ إذ يضعنا أمام مرحلة
مفصلية تكشف هشاشة العالم المعاصر، وتعرّي تناقضاته في التعامل مع الكوارث،
بين منكر ومصدّق، بين رافض ومُذعن.
مَن سيقف في وجه هذا الشريف؟ إنه عدوه اللدود: العمدة
المنتخب حديثاً (بدرو باسكال)، الذي يتحدى الشريف ويدخل معه في صراع محموم،
هذا التصادم يشق البلدة نصفين، ويكرّس انقساماً حاداً يعكس الاستقطاب الذي
عرفته أميركا والعالم خلال تلك الفترة ولا تزال تعانيه حتى اليوم.
الخلاف بين الشريف والعمدة، الذي يتخذ أحياناً طابعاً
كاريكاتورياً، يُغرق البلدة في فوضى عارمة، سرعان ما تتجاوز حدود المعقول
لتتحول إلى مواجهة عبثية، عنيفة وساخرة في آن واحد، يصوّرها آري أستر في
حال من التيه الكامل أحياناً، وفي أحايين أخرى باستعادة متعمّدة للتوازن،
وكأنما يختبر قدرة المشاهد على التماسك وسط هذا الانهيار. لكن كثافة
التفاصيل والأحداث المتلاحقة، ضمن إيقاع تصادمي خانق، تُثقل الفيلم وتمنعه
من التنفّس بحرية، يُضاف إلى ذلك الزجّ بعدد كبير من القضايا في حيّز سردي
واحد: نظريات المؤامرة، العنصرية ضد السود واللاتينيين، تفشّي الشعبوية،
انفلات السلاح، وكلها تصبّ في بوتقة من العنف المتسلسل، يبدو بلا نهاية.
ومع أن مدة الفيلم تقترب من الساعتين ونصف الساعة، إلا أن
التكرار، والإطالة، ولحظات الوقوف الإخراجي على حافة الهاوية، ترهق
المشاهد. ومع ذلك، وبفضل حرفيته المعروفة في أفلامه السابقة، ينجح أستر
مراراً في تفادي الانهيار الكلي، كما لو أنه يستعيد السيطرة عند آخر رمق.
الأخوان كووين ليسا بعيدين عن هذه الرؤية الملتبسة لأميركا،
لكن أستر يذهب أبعد منهما، ضارباً تحت الحزام، مختصراً الطريق بين السياسي
والنفسي، في رؤية سينمائية أقرب إلى برج بابل، يدين فيها الكثير، مستخدماً
أدوات ما يدينه، ذاتها. كل ذلك يجري وسط التباس وغموض وضياع متعمّدين، في
سيناريو يصعب فكّ شيفراته، مما يترك المشاهد في حال من الانزعاج المشروع،
انزعاج يبدو أن أستر يفتعله.
في التعاون الثاني له مع أستر بعد "بو خائفاً"، يهيمن واكين
فينيكس على الشاشة بصفته "الرجل الأول" لدى المخرج، لكن أداءه يتراوح هذه
المرة بين التهريج والتكرار، من دون أن يفسح مجالاً للانفعال، في المقابل،
يظل ظهور بدرو باسكال وإيما ستون باهتاً، مما يشكل نقطة ضعف واضحة في
البنية التمثيلية للعمل.
الريف الفرنسي
الريف بصفته بيئة حاضنة للرجعية هو ما نراه أيضاً في فيلم
"المبتلعة" (معروض في قسم "أسبوعا صنّاع السينما")، باكورة أعمال المخرجة
الفرنسية لويز إيرمون، إذ نتابع قصة إيميه (غالاتيا بيلوجي)، أستاذة شابة
تصل إلى قرية نائية في أعالي جبال الألب، قبيل نهاية القرن الـ20، لتعليم
القراءة والكتابة لسكان يغرقون في الجهل والخرافة.
إيميه، التي تبدأ رحلتها كرمز للعلمانية والتنوير، تواجه
رفضاً وسخرية، لكنها تدرجاً تؤثر في الأطفال وبعض السكان، بينما تتأثر هي
بدورها بالبيئة الجديدة، وتروح تنغمس في نمط حياة مختلف.
في هذه القرية التي تعرف فقط كاليفورنيا والجزائر كعالمين
أسطوريين، يهيمن الغموض، وتتخلل الفيلم أجواء من الأسطرة والمجهول، عاصفة
ثلجية تبتلع القرية وسكانها، وتخلق مشهدية بصرية رائعة، تستفيد منها
المخرجة إيرمون عبر كادرات كلاسيكية وصورة ضيقة يتناوب فيها البياض الخارجي
والعتمة الداخلية، في تعبير بصري عن صراع النور والظلام.
ولكن على رغم الجماليات البصرية والعناية بالصورة، يبدو
الفيلم تقليدياً من حيث المضمون، فكرة التحضر التي تمثلها البطلة تنحل
تدرجاً في لا يقين الفيلم، إذ تصل إلى لحظة ترى فيها الخرافة والجهل ملاذاً
بسيطاً ومريحاً، وبين صدام العقل والإيمان، تظهر مفارقة ساخرة: نساء القرية
يعترضن على كتابة الحكايات، معتقدات أن تدوينها يقتل هذه الحكايات، في نقيض
واضح لوظيفة السينما ذاتها، التي تخلّد القصص بالصورة.
"المبتلعة" فيلم عن التحوّل، عن هشاشة القناعات، وعن
الانصهار في الآخر، حيث لا أحد يخرج كما دخل، لا البطلة، ولا القرية ولا
المتفرّج. |