السينيفيليون سيفتنون به، والنقّاد سيسهبون في تحليله، أما
المهرجانات فستتناقله كما تتناقل النار في الهشيم. إنه "موجة جديدة"،
الفيلم الأحدث للمخرج الأميركي ريتشارد لينكلايتر، الذي شاهدناه مساء السبت
ضمن مسابقة مهرجان كانّ السينمائي الثامن والسبعين (13 - 24 أيار).
لينكلايتر، العاشق الأبدي لـ”الموجة الفرنسية الجديدة”،
التي شكّلت له ولجيله من السينمائيين خلف الأطلسي مصدر إلهام لا ينضب، يعود
بهذه التجربة إلى المهرجان الذي كان أعطى منصّة لهذا التيار الثوري، يوم
انطلقت شرارته مع فيلمي “سيرج الجميل” لكلود شابرول و”الحياة الماجنة”
لفرنسوا تروفو في أواخر خمسينات القرن الماضي.
في "موجة جديدة”، يقدّم لينكلايتر تحية ثلاثية البُعد: إلى
السينما، إلى غودار، وإلى الفكر الثوري الناشئ من داخل الفنّ والتجريب
والمغامرة، والذي لا يعترف بالحواجز، بل يخترقها ليصوغ مساره الخاص. الفيلم
أكثر من استذكار زمني، انه احتفاء بروح التمرد، وإعادة طرح لأسئلة الفنّ
والمعنى والحرية بأسلوب معاصر ينظر إلى الماضي بامتنان.
يبدأ الفيلم بتوثيق البدايات الأولى لما أطلقت عليه فرنسواز
جيرو لاحقاً اسم "الموجة الجديدة"، مع تقديم ظريف لأبرز وجوه هذا التيار:
كلود شابرول، فرنسوا تروفو، جان لوك غودار، إلى جانب إريك رومير وجاك
ريفيت، وجميعهم، أو معظمهم، خرجوا من عباءة النقد السينمائي قبل أن يصنعوا
تاريخاً جديداً على الشاشة.
يركّز الفيلم بشكل خاص على الأسماء الثلاثة الأولى (شابرول،
تروفو، غودار) ويمنح حيزاً لافتاً لشخصية جورج دو بورغار، المنتج الأسطوري
الذي آمن بموهبة غودار ومنحه فرصة إخراج “على آخر نفس” (1959)، من دون أن
يطلب أي ضمان سوى أن يؤفلم غودار سيناريو تروفو، الذي كان قد أثبت نفسه
بقوة في كانّ من خلال فيلمه الطويل الأول "الحياة الماجنة".
بعد هذه المقدّمة، يأخذنا لينكلايتر في رحلة شغوفة إلى
كواليس تصوير "على آخر نفس"، الفيلم الذي صُوِّر في 20 يوماً فقط، وكان
بمثابة مختبر حيّ للأفكار التي أرست أسس "الموجة"، عبر قطيعة جذرية مع
قواعد السينما الكلاسيكية. كان الأمر قلباً للطاولة على "السينما القديمة"
التي كان غودار ورفاقه يرفضونها بازدراء، مستثنين منها أسماء قليلة مثل جان
رونوار، جان بيار ملفيل، روبير بريسون وروبرتو روسيلليني، والأخير كان
يعدّه غودار إله السينما، ونراه، في مشاهد ظريفة للغاية، وهم يستقبلونه في
مكاتب "كاييه دو سينما"، كمريدين في حضرة المعلّم، راسمين ملامح مشروع ثوري
لا يرى السينما كوسيلة ترفيه، إنما كأداة تفكير وتحرر.
على امتداد ساعة وخمس وأربعين دقيقة، يصحبنا لينكلايتر في
رحلة إلى كواليس "على آخر نفس"، في سرد يستند إلى أبحاث معمّقة أجراها
المخرج لينقل الينا الوقائع بأكبر قدر من الأمانة والدقّة. سنتابع غودار
وهو يتعامل مع ضغوط من كلّ صوب: من منتج يسعى إلى فيلم "سكسي" يشد الأنظار،
إلى الممثّلة الأميركية جان سيبيرغ، المترددة في خوض مغامرة قد تأتي بالضرر
على سمعتها، والتي كانت أُقنعت بالمشاركة مقابل 15 ألف دولار، بعد أن كانت
نجمة تحت إدارة أوتو برمينغر في هوليوود.
سنرى غودار وهو يتحوّل من ناقد شاب يجلس خلف آلة كتابة،
يسرق المال من صندوق المجلة التي يعمل فيها ليتمكّن من السفر إلى مهرجان
كانّ والتصفيق لرفيقه تروفو، إلى مخرج يقلب موازين السينما، ويخترع "قواعد"
لم يكن لها وجود قبله. والمقصود بـ"القواعد" غياب القواعد. يقتصد في
المصاريف، يبتكر حلولاً لكلّ عقبة، ويتنقل في مواقع التصوير بدفتر صغير في
جيبه وسيجارة لا تفارقه.
يضرب غودار بالسيناريو عرض الحائط، مستنداً فقط إلى أفكار
ونظريات استخلصها من سنوات طويلة من المشاهدة والتفكير، مما يفضي إلى حالة
من الارتباك داخل فريق العمل. الممثّلون والتقنيون لا يعلمون بالضبط ماذا
يفعلون، ولا إلى أين يتّجه بهم هذا المشروع الغامض. هذه النقاشات العفوية،
والمواقف العبثية التي تجمعه بطاقم الفيلم، تشكّل نسيجاً بورليسكياً، لكنها
في عمقها ترسم صورة عن ولادة مشروع سينمائي غير مسبوق.
الفيلم ينقل بمهارة ذلك الجو الفوضوي الخلّاق، حيث لم يكن
أحد يعلم فعلياً ما الذي يصنعه، وفي مقدمهم غودار نفسه، الذي كثيراً ما كان
يقرر إلغاء التصوير فجأةً أو يكتفي بتصوير مشاهد قصيرة مرتجلة بحثاً عن
الإلهام. ومع ذلك، ومن رحم هذه الفوضى، وُلد فيلم أصبح أيقونة وكتابة جديدة
لتاريخ السينما من نقطة الصفر.
يمنحنا لينكلايتر امتياز النظر إلى غودار وجماعة "الموجة"
بالمفعول الرجعي؛ فنشعر وكأن الشخصيات على الشاشة تستشرف المستقبل. وعندما
يمزح أحدهم على البلاتو قائلاً إنهم سيدخلون التاريخ، يرد عليه المنتج
ساخراً: "من الأفضل أن تدخلوا التصوير أولاً". بهذا المزاج المرح، وبتلك
العفوية الممزوجة بالصراحة والفكر المتفلّت من كلّ قيد، تتشكّل عملية
التصوير، رغم ما يعترضها أحياناً من خلافات، أبرزها مشهد شجار محتدم مع
المنتج، لكن الأمور تعود سريعاً إلى طبيعتها ضمن "الشلة" التي توحّدها روح
التجربة المشتركة.
لينكلايتر لا يكتفي بسرد قصّة ببلادة. نراه يعيد بناء عالم
متكامل من العدم. يعود بنا إلى زمن الأبيض والأسود، إلى خامة بصرية وصوتية
تنبض بروح الستينات، يُنجزها بإتقان يكاد لا يُصدَّق. كلّ تفصيل، من خطوات
المارة في شوارع باريس، إلى إيقاع الطَرق على الأرصفة، إلى ظلّ الرمادي
الحقيقي على الجدران، كلّ ذلك يحضر بإدارة فنية مذهلة تعيد الحياة الى تلك
اللحظة التاريخية. حتى السيجارة في يد أحدهم، تُمسك بطريقة لا يمكن أن تكون
إلا من ذلك الزمن، والدخان المتصاعد منها ليس مجرد مؤثّر بصري، بل توقيع
زمني. هكذا، يضعنا لينكلايتر أمام قطعة حية من الماضي، لا بوصفها مادة
نوستالجية، أنما كإعادة طرح لروح السينما حين كانت تنبض بالمغامرة والتجريب
والتحدي.
ولعل أجمل ما في "موجة جديدة"، أن مَن يقف خلفه ليس مخرجاً
فرنسياً، بل أميركي. هذا وحده منح الفيلم حساسية مختلفة، وشحنة جمال عارمة.
لقد أتى لينكلايتر إلى هذه القصّة كمن يسعى إلى الكنز، لا كمن ورثه. ثمة
فرق بين مَن وجد الأشياء بعد عناء، ومن وُضعت في طريقه على طبق من فضّة.
هذه المسافة، وهذا الجهد، هما ما يمنحان التجربة بُعداً إنسانياً. هناك
دائماً جمال خفيّ في التبادلات الثقافية. والسينما، على عكس الواقع، لا
تجعل من فيلم أميركي يصوّر فرنسياً مادة أقل أصالةً. لأن السينما، كما كان
يقول غودار نفسه، وطن منعزل، قائم بذاته، لا يعترف بالحدود ولا بالجنسية.
عنصر آخر يستحق التوقّف عنده، هو المقاربة الهزلية. نضحك
كثيراً في "موجة جديدة". لا لأنه فيلم كوميدي بالمفهوم التقليدي، بل لأنه
يلامس ذاكرة السينيفيليين برشاقة. الضحك هنا متعة مضاعفة: متعة التعرّف الى
شخصيات شكّلت وعينا السينمائي، ومتعة التلاعب المحب بهذه الأيقونات. خاصةً
لأولئك الذين يحملون لـ"الموجة الجديدة" مكانة عاطفية وفكرية. وهذا الضحك،
في جوهره، جزء من سبب قبولنا لممثّلين لا يشبهون تماماً غودار أو تروفو أو
شابرول. لكن المفارقة أن ذلك لا يهم. فالممثّلون لا يقلّدون، بل "يجسّدون".
لا يسعون الى تكرار الأصل، بل الى إعادة روحه. وهذا أكثر صدقاً. غيّوم
ماربك، مثلاً، لا يحتاج إلا إلى الكيفية التي كان يلفظ فيها غودار حرف
السين كي يصير غوداراً. وتكفي نظارات على وجه شابرول ليتحوّل فجأةً إلى
مخرج "دجال بالخل". التمثيل هنا ليس محاكاة، بل فهم عميق للشخصيات. وهذا ما
التقطه لينكلايتر منذ البداية. لم يطلب منّا أن نؤمن بالأشخاص كما هم في
الواقع، بل أن نفهمهم كما هم في خيالنا. هكذا يُبنى الجسر بيننا وبينهم:
عبر الصورة، ولكن أيضاً عبر الشعور.
ولعل الأهم من هذا كله هو ان "موجة جديدة" ليس مجرد فيلم عن
غودار، إنما تذكير بمدى مركزية هذا الرجل في تطور السينما. ما كان في زمنه
مجرّد تجريب عبثي في نظر البعض، بات اليوم هو "النورم"، القاعدة، النموذج
الذي يُحتذى. ولو اقتصر الفيلم على هذه الإشارة فقط، لكان كافياً في قيمته.
وليس غودار وحده ما يستدعي التقدير هنا، بل أيضاً التقنيات التي واكبت
انطلاقته، وساهمت في تشكيل ملامح السينما الحرة. يضيء لينكلايتر على دور
المصوّر راوول كوتار، ذلك الشريك الصامت، الذي رسّخ بعمله ما أصبح لاحقاً
"قواعد" جديدة للصورة.
أخيراً، هل يمكن القول إن لينكلايتر فكّك الأسطورة؟ بمعنى،
هل أزاح الهالة عبر التنقّل بين الشاشة والحياة، وذلك عبر كشف كواليس
التصوير، وبأنه جعل من أناس نراهم كأساطير مجرد أفراد حائرين يلتفون حول
جثّة بلموندو ممدّداً على الأرض، من دون أن يعرفوا ما يريده غودار؟
الجواب قطعاً: لا.
فما فعله لينكلايتر ليس تفكيكاً بالمعنى الهدمي. لقد فكّك
الأسطورة فقط ليُحصّنها، ليجعلها أكثر قرباً، لا أقل قداسة. لم يقدّم لنا
غودار بطلاً مطلقاً، بل إنساناً مشغولاً بالأسئلة، تائهاً أحياناً، لكنه
مسكون بالحلم. وبهذا، بقيت الأسطورة كما هي. |