موت شابة في الخامسة والعشرين خبرٌ مروّع، فالشباب أكثر ما
يتحسّر عليه الناس في قصة موت: «لقد مات شاباً»، فكيف إذا أضيفت عناصر
أخرى، من قبيل: رحل عشية (أو حتى غداة) زفافه، إثر نجاحه، تخرّجه، لحظة
لقائه بشخص عزيز، عبارات أَلِفناها على مدى الحرب الوحشية المستمرة على
قطاع غزة.
في حكاية الشهيدة الغزية فاطمة حسونة، التي قضت في 16
نيسان/ إبريل الفائت بقصف إسرائيلي غادر على منزل عائلتها في حي التفاح في
قطاع غزة، مع عشرة من أقاربها، وهي فَقَدتْ في الأساس، منذ شهور، أحد عشر
عزيزاً من عائلتها بقصف مماثل،.. في حكايتها مئة سبب للبكاء المرّ.
عشية قتلها، قبل يوم واحد فقط، عرفتْ المصورةُ الشابة أن
الفيلم الوثائقي «ضَعْ روحك على كفّك وامشِ»، الذي تعتبر هي بطلته، أُدرِج
في تظاهرة موازية ضمن عروض مهرجان كان السينمائي، أثناء اتصال فيديو مع
مخرجة الفيلم الفرنسية الإيرانية زبيدة فارسي. ضحكتها ملأت الشاشة، وعندما
سُئلتْ إن كانت تحب أن تأتي إلى كان، المهرجان السينمائي الذي يعقد كل عام
في الجنوب الفرنسي، أجابت: «سأذهب، بشرط أن أعود… غزّتي بحاجة إليّ». لكن
الموت الإسرائيلي عاجَلَها، قطع عليها الطريق، إلى سينما العالم، كما إلى
زفاف قريب في الصيف.
زبيدة فارسي، مخرجة الفيلم، لم تصدق النبأ، قالت ربما هناك
تشابه في الأسماء، لكن عدم الجواب على اتصالاتها الملحة ورسائلها كان هو
الجواب: «في البداية لم أصدق الخبر، ظننتها حالة من تشابه الأسماء، اتصلتُ
بها، ثم أرسلت رسالة تلو الأخرى، لكن لا ردّ، لقد غابت، بلمسة زر تم إطلاق
صاروخ أزال منزلاً جديداً من على وجه غزة».
لقد رحلت بطلة فيلمها، باتت «فاطم»، وهذا هو الاسم الذي
كانت توقّع به أعمالها، شخصياً الختامَ التراجيدي لفيلم مأساوي فلسطيني
طويل بلا نهاية.
المخرجة فارسي قالت إنها تعرّفت على فاطمة «من خلال صديق
فلسطيني في القاهرة»، بينما كانت تبحث عن وسيلة لدخول غزة، «فصارت عيني
هناك، وصرتُ نافذتها على العالم، كنت أصوّرها عبر مكالمات الفيديو، في
ضحكها، وبكائها، وأحلامها، وانكساراتها، لم أكن أعرف إلى أين ستقودنا تلك
اللقطات، لكن هكذا هي السينما، وهكذا هي الحياة»، قالت فارسي لصحيفة
فرنسية.
تستوحي فارسي تعبير «صارت فاطمة عيني» من لقب كانت حسونة
تكنّى به في البلاد، لدأبها على مطاردة الصور، الركض وراء كل تفصيل في
القطاع: «عين غزة»، صيادة الصور الاحترافية، خريجة «الوسائط المتعددة» من
«الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية»، ما يفسّر لماذا هي موزّعة على أكثر من
طريقة تعبير، فإلى جانب الصور الفوتوغرافية هناك الفيديو، وهناك التسجيل
الصوتي، وقد لفتني على صفحتها في أنستغرام تسجيل صوتي يحمل عنوان «أهدي
سلامي»، وفيه تهدي مواطنتها نجوى عيسى سلاماتها إلى عائلتها الموزعة في كل
مكان، وتتحدث عن وقائع يومية من عذاباتها، والصورة المرفقة مع الصوت تمثّل
حبل غسيل، على خلفية سماء رائعة الزرقة. أما ضجة الأطفال في خلفية التسجيل
فوحدها سحر خالص، حياة كاملة.
لا تكتفي حسونة بالفيديو والصوت والصورة، فقلّما يخلو
منشورٌ لها من كتابةٍ مشغولة بعناية، نصوص موازية مبدعة. من بينها هذا
التعليق المرفق مع صورة لطفلتين تحملان مظلة بلون بنفسجي:
«بإمكانِ البنفسجِ أن يواجهَ عالماً من خراب،
كما يمكنُ ليدين صغيرتين أن تشغلاك عن قريةٍ مُهدّمة
كما يمكنُ لرأسين ملتصقتين أن يجعلا عينيكَ تلمسُ حُبّاً لا
حدودَ له.
في المخيّم، يفوزُ البنفسجُ الرقيق، على البيتِ الخشن،
والحجارةِ الكريمة، والكُره المُتشكّل على هيئةِ دخانٍ مُتكسّر، والعالمِ
الذي لا ينظرُ إلينا.
نحنُ الذينَ لا ينظرُ إلينا أحد، نستطيعُ أن نجدَ طريقاً
دائماً، يبدأ بيدين مُتشابكتين، وينتهي بمظلّةٍ بنفسجيّةٍ في منتصفِ
الشارع».
الكتابة ليست أمراً طارئاً على حياة الشابة، فهي تقدم نفسها
أيضاً كقاصّة، توثّق، خصوصاً، قصص وأحوال «غزتها» ومخيماتها.
كما تكشف المخرجة فارسي عن قصيدة لها بعنوان «الرجل الذي
ارتدى عينيه»، تقول في مطلعها: «ربما أعلن موتي الآن، قبل أن يشحن من يقف
أمامي بندقيته وينتهي كل شيء».
وتحت عنوان «يوميات مصورة من شمال غزة»، تكتب، إلى جانب
مجموعة من الصور التي اصطادتها على البحر:
«مُذهلاً كانَ العالمُ هُنا، في هذهِ الصّورة، وقتَ أن عادَ
أصحابُ البحرِ إليه! كانَ الطّريقُ للبحر أخطرَ شيءٍ قد يُجازفُ شخصٌ هُنا
سلوكَه، أو الوصولَ إليه، لكنّ شوقَنا كانَ أكبر، أكبرَ من الطائرةِ التي
ستتبعُنا وتقتُلنا، أكبرَ من زوارقِ البحرِ الحربية، أكبرَ من قنّاصة،
وأكبرَ من الموتِ نفسه. مُذهلاً كانَ المشهدُ هُنا وقتَ الوصول، سُكّانُ
البحرِ جاؤوا إليه، عادوا يحملونَ حياتهم التي انتظروها طويلاً، ولم تُعطهم
إياها الحرب، عادوا باحثينَ عنهم، عمّا تبقّى من أصواتهم التي أخذتها
الحرب، عادوا نكايةً في الحرب، للمكان الوحيد الذي ظلّ شاهداً على هذه
المدينة، وهذهِ الحياةِ البسيطة، عادوا إلى البحر، بحرِهِم، يُبحلقونَ في
عينِ الحرب، ويفقؤونها».
لطالما عقدت هذا العلاقة القاتلة بين عين المصور، وعين
المدفع، سبطانة الرشاش، عين قبالة عين، أيهما أنبل، أيهما أجمل، أيهما أقوى
وأبقى. تقرر حسونة سلفاً، أن مجرد عودة البحارة إلى بحرهم تحدٍ لعين الحرب،
فما بالك بالكاميرا التي تقف بالمرصاد، لتفقأ، هي الأخرى، عين الحرب،
باللون، والصوت، والكلمة، بالصور التي تكاد تشم عبرها رائحة كعك العيد،
وتسمع ضحكات الأطفال، واشتياق الناس للحياة، صبرهم وعنادهم، وكذلك صور
موتهم، فمثلما أرادت فاطمة ألّا تموت كرقم بين الأرقام، كذلك أرادت لأهل
غزة أن يكونوا قصص حياة لا أرقام. فقد كتبت، قبل أيام من استشهادها: «إذا
متُّ، أريد موتاً صاخباً، لا أريد أن أكون مجرد خبر عاجل، أو رقم فى
مجموعة، أريد موتاً يسمعه العالم، وأثراً يبقى عبر الزمن، وصورة خالدة لا
يُمحى أثرها بمرور الزمن أو المكان».
ولم تكن مجرد خبر عاجل، بل قصة مدوية حتى قبل عرض فيلمها،
قال بيان للتظاهرة المستضيفة للفيلم: «كنّا سنعرض فيلماً
يشبه المعجزة، يحمل نور فاطمة، لكن بعد هذا الفقد لم يعد الفيلم كما كان،
يجب أن نكون جميعاً جديرين بذلك الضوء الذي كانت تمثّله كامرأة شجاعة لا
تهاب الأخطار، وهي متمسكة بالأمل رغم كل ما يحصل».
وألقت جولييت بينوش، رئيسة لجنة التحكيم في «كان السينمائي»
كلمة بأداء مؤثر للغاية: «كان ينبغي أن تكون فاطمة معنا الليلة. الفن يبقى،
فهو الشهادة القوية على حياتنا وأحلامنا».
أما الفيلم، عند عرضه، فقد استُقبل بالتصفيق الطويل
وبالدموع، وتحدثت المخرجة، وهي تحمل صورة حسونة، وتمسح دموعها، عن الفراق
الحزين والمؤلم لرحيلها.
قالت المخرجة زبيدة فارسي: «كان يفترض أن تكون فاطمة هنا،
إلى جانبنا، وبيننا، تفكيري مع عائلتها ووالدتها، الناجية الوحيدة من
أسرتها. إنسانيتنا شوهت بهذه المجازر التي يتواصل ارتكابها في غزة. وضميري
يؤلمني، ربما كنت أنا السبب بعد قيامها بالدور الرئيس لفيلمي الذي يعرض
اليوم في مهرجان كان»، وأضافت أن «همّ الجيش الإسرائيلي أن يقتل كل روح
خلاقة ومبدعة». ولم تستبعد أن يكون جيش الاحتلال قد قصف الشابة متعمداً إثر
خبر المشاركة في مهرجان كان، ولم نستبعد ما دام استهدف وقتل بالفعل حتى
الآن 212 صحافياً منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، في حصيلة غير
مسبوقة في تاريخ النزاعات الحديثة.
بدأ إذاً عرض الفيلم، وسيكون في صالات العرض للجمهور في
أيلول/ سبتمبر المقبل، وبهذا تكون فاطمة حسونة قد افتتحت الحكاية، حكايتها
وحكاية غزّتها (كما لو أنها هي أمها الرؤوم، أم مدينتها!)، ليندلع ألبوم
صور لعالم لا يستنفد. هكذا تستأنف «فاطم» حياتها من جديد، تعيش موتها كما
صممت وأرادت.
هذا هو عزاؤنا، ألبوم صور مليء بالعيون الحلوة، الضاجة والواعدة بالحياة،
وضحكة لفاطمة ولا أجمل.
كاتب من أسرة «القدس العربي» |