ملفات خاصة

 
 
 

توفيق برهوم: أن تُواجه الحقيقة يعني أن تملك فرصة النجاة

آلاء حسانين

كان السينمائي الدولي

الثامن والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

«اليوم ماتت أمِّي، أو ربما بالأمس، لست أدري». بهذه العبارة الشهيرة يفتتحُ ألبير كامو روايته «الغريب». هذه العبارة هي التي تذكَّرتها على الفور وأنا أشاهد «أنا سعيدٌ لأنك ميت الآن» (I'm Glad You're Dead Now - 2025) لتوفيق برهوم فلتوفيق غريباه أيضًا، غريبان يأخذاننا في رحلةٍ طويلةٍ داخل عقليهما المتشابكين: أحدهما أبو الرشد (أشرف برهوم)، رجلٌ أضناه الخرف، يكرر سؤاله الباهت «وين أبوي؟»، فيما يقف أخوه رضا (توفيق برهوم نفسه) منشغلًا بنشر الخشب بانفعالٍ واضح، ويجيبه بحدة ويأمره بالابتعاد والدخول إلى البيت.

كان رضا قد فرغ لتوِّه من جرِّ جثَّةٍ ما عبر الطريق، وها هو منهمكٌ الآن في صناعة ما يبدو على أنَّه تابوتها. في الوقت نفسه كان أبو الرشد يبكي بصوتٍ عالٍ خلفَ بابٍ أغلقه على نفسه. وفي النهار التالي يجلسان سويًا عند الميناء. رضا، وهو الأخ الأصغر، يعبِّئ الانتظار بالكلام، مع أخيه أبو الرشد، عن الشيء الفظيع الذي حدث بالأمس، حيث كلاهما كانا موجودان، وأحدُهما شاهدٌ على ما اقترفه الآخر.

يحاول أبو الرشد أن يُخفي مشاعره، أن يكتم بكاءه بقضماتٍ متتاليةٍ من الليمون، يتظاهرُ بالتماسك، ثمَّ يناول القطعة التالية لأخيه بصمت. عندها يقول رضا بنبرةٍ هادئةٍ إنَّهما لم يُحبَّا الليمون يومًا، وأنَّهما كذبا حين ادعيا ذلك في طفولتهما، فقد اضطُرَّا لأكله فقط كي يُزيل طعم "الزفت" الذي علِق في أفواههما.

يبدو التوتُّر واضحًا منذ اللحظات الأولى في الفيلم، أو ربَّما هو توتُّرٌ سابقٌ للبداية ذاتها، ممتدٌّ من شيءٍ ما لم نره بعد. فالمشهد الافتتاحي لا يترك مجالًا للشك في أنَّنا أمام نهاية، نهاية ثقيلة ومحمَّلة بما سبقها. ها هي جثَّةٌ تُسحب ببطءٍ عبر الطريق، في ليلٍ حالكٍ كأنَّما يطوي معه صفحةً طويلةً من عمرٍ مثقلٍ بالصراع.

على ماذا يستند هذا الصراع؟ لا تبدو هناكَ أسباب واضحة، أو لعلَّ الأسباب موجودةٌ لكنَّها لم تعد ذات أهمية. رضا وأخوه يجلسان أخيرًا فوق تابوت ما، عند الميناء، في انتظار العودة إلى المدينة. فقد كانا في زيارةٍ قصيرةٍ إلى والدهما، في الجزيرة التي تربَّيا فيها. ويبدو أنَّ هذه الرحلة، التي بدت عاديَّةً في ظاهرها، تحوَّلت إلى عودةٍ غامضةٍ نحو الجذور، وكأنَّها أعادتهما إلى أصل اللعنة ذاتها. يُذكِّر رضا أخاه أبو الرشد ببعض الأحداث القديمة دون أن يبدي أيَّ رغبةٍ في التبرير أو الشرح؛ كأنَّه يرويها لمجرَّدِ التذكير ليس أكثر. ويتحوَّل الحديث بينهما تدريجيًّا إلى ما يشبه المرثيَّة الطويلة لحياتهما، يسردان خلالها ما مرَّ بهما من أهوال: طفولةٌ مُرَّة، وأحداث فظيعةٌ خلَّفت ندوبًا لا تُمحى. العذاب الذي أفقد أحدهما عقله، وجعل الخَرَف يستولي عليه، في الوقت الذي ابتُلي فيه الآخرُ رضا بالذاكرة؛ فهو يهمس كمن يشكو لذاته: «أنا مش ناسي، يا ريت بقدر أنسى، بس هاد القرف كله عالق بمخِّي للأبد».

يرفض رضا أن يأكلَ من الليمون، يضعه جانبًا بحركةٍ هادئةٍ لكنَّها حاسمة، وكأنَّ تلك الأيام التي كان يخدع فيها نفسه قد انتهت أخيرًا. لم يعد بحاجةٍ ليتظاهر بأنَّه يحبه، ولم يعد مضطرًّا لاختلاق الأعذار. يبرِّر بصوتٍ خافت، أقرب إلى التأمُّل منه إلى الدفاع: «إحنا كنا ولاد صغار»، كأنَّما يحاول أن يمنح تلك المرحلةِ القاسية عذرًا بسيطًا، أو أن يغفِر لنفسه شيئًا من ضعفٍ مضى. يصل المركب التي سيخرجهما من القرية، فيسرح أبو الرشد طويلًا بعدما سأل رضا بفضول: «شو في بالصندوق؟» لكنَّه لم يتلقَّ جوابًا. لم يكتفِ بذلك، فتابع بسؤال آخر: «هو ميِّت هلأ؟» ثمَّ يصعدان معًا إلى المركب حامِلَين التابوت. يبدأ أبو الرشد فجأة برقصِ رقصةِ فرحٍ لا تنتهي، تشبهُ إلى حدٍّ بعيدٍ رقصة زوربا الشهيرة. يغنِّي بصوتٍ عالٍ، يصفِّق بيديه، ويرقص بحماسٍ كبير، وكأنَّه غارق في بحرٍ من السعادة المطلقة. أما رضا، الذي لا يعبِّر عن مشاعره بسهولة، فيمسك بأخيه برفق، يطبطب على كتفه، ثمَّ يحتضنه بحنانٍ ودفءٍ لفترةٍ طويلة.

يجمع الموت ويفرِّق بنفس الطريقة التي تفعلها الحياة. هذه الرحلة التي أعادت الأخوين إلى والدهما في الجزيرة، إلى ماضيهما المشترك، حيث جمعَ بينهما الألم خلال سنوات الحياة، كانت بمثابة إعادةٍ لربط أواصِلِهما من جديدٍ عبر موت الأب - المسبِّب الرئيسي لهذا الألم - على يد أحدهما. الغريب في الأمر أنَّهما حملا جثمان والدهِما معهما إلى المدينة، كما لو أنَّه صليبهما الذي سيظلُّ يثقل كاهلهما ويعذبهما طوال حياتهما. كلُّ واحدٍ منَّا يحمل بداخله جرحًا عميقًا لا يشفى أبدًا، ويبدو أنَّ هذا الجرح هو جرحهما الخاص الذي يلازمهما دومًا.

يُعتَبر فيلم «أنا سعيدٌ لأنَّك ميِّتٌ الآن» عملًا سينمائيًّا واعدًا جدًا، رغمَ أنَّه أوَّل تجربةٍ إخراجيَّةٍ للمخرج الفلسطيني توفيق برهوم. يعكسُ الفيلمُ موهبةً مميَّزةً تبوح عن مخرجٍ صاعدٍ ومبشِّرٍ في عالم السينما. يتميَّز العملُ بشاعريَّةٍ واضحة، حيث يناقشُ مشاعر قصَّةٍ معقَّدةٍ بطريقةٍ محمَّلةٍ بالعبثيَّة الشديدة، لكنَّها لا تفقد عمقها أبدًا، ممَّا يجعل تأثيره قويًّا ومؤثِّرًا جدًا. من المتوقَّع أن يظلَّ هذا الفيلم، بتفاصيله ومضامينه، محفورًا في ذاكرة المشاهدين لفترةٍ طويلة.

في الدورة 78 من مهرجان كان السينمائي لعام 2025، الذي يُقام في الفترة ما بين 13 و 24 مايو، اختيرَ هذا الفيلم الفلسطيني القصير ضمن المسابقة الرسميَّة للأفلام القصيرة. يُعدُّ هذا الفيلم إنتاجًا مشتركًا بين فلسطين وفرنسا واليونان، ويبلغ طوله 13 دقيقة. وقد اختيرَ من بين 4781 فيلمًا قُدمت للمسابقة، بحيث أنَّه يتنافسُ مع 10 أفلام أخرى تشمل 8 أفلام روائيَّةٍ قصيرةٍ وفيلمين تحريكيَّين. تُعتبر هذه المشاركة إنجازًا بارزًا للسينما الفلسطينيَّة، خاصَّةً في ظلِّ التنافسِ الشديد في مهرجان كان، الذي يُعدُّ من أبرز المهرجانات السينمائيَّة العالميَّة.

حل المخرج توفيق برهوم ضيفًا على «ميم» في حديثٍ حصريٍّ تناول فيه رحلته ما بين الإخراج والتمثيل، وأهميَّة تجربة كان بالنسبة إليه. بدايةً حدِّثنا عن رحلتك مع السينما وما السبب الذي دفعكَ لخوض تجربة الإخراج إلى جانب التمثيل؟ وما التحديات التي خضتها كممثِّلٍ ومخرجٍ في الآن ذاته؟

الحقيقة أنَّني لم أرغب في التمثيل أبدًا، ولم يشغلني هذا الأمر. لكنَّني أردت دائمًا أن أصنعَ أفلامًا. في هذه الفترة كنتُ مقيمًا في فلسطين، ولم يكن لديَّ وسيلة لصناعة الأفلام. لذلك بدأت بالتمثيل عام 2011، ولكن بعد أكثر من عشرِ سنواتٍ من العمل مع عددٍ كبيرٍ من المخرجين الذين ساعدوني كثيرًا، ظننتُ أنَّ الوقت قد حان لأصنع فيلمي، ولا أعرف إن كنت سأكملُ بالتمثيل، لأنَّ التوفيق بين الأمرين صعبٌ للغاية، رغمَ أنَّني أعرفُ في قرارة نفسي بأنَّني سأواجهُ أيضًا صعوبةً في الفرار من هذا الأمر وأعرف في الوقت ذاته أنَّني سأكملُ فيه. المشكلة أنَّ إخراج الفيلمِ يأخذ الكثير من حياتك، الكتابة والإنتاج وغير ذلك. على سبيل المثال، ولكي أصنع هذا الفيلم، لم أجد نفسي مضطرًّا للعمل لمدَّة عامٍ كامل، بل كان عليَّ فقط التركيز حول هذا الفيلم. ففي مرَّاتٍ عديدةٍ تكمنُ الصعوبة في صنع شيئين في الآن ذاته.

هل تكتب وأنت ترى الشخصية من الداخل كممثل؟ أم تبنيها من الخارج كمخرج؟ وكيف تتشكل البذرة الأولى للفيلم بداخلك؟ أعتقدُ بأنَّني أكتبُ كممثِّل، لأنَّ وظيفة الممثِّل هي الانغماس في الشخصيَّة وأنا أكتبُ انطلاقًا من هذا الانغماس، خاصَّةً عندما ترتكزُ كتابتي على الشخصيَّات نفسها، ولكن عندما أكتبُ الجوانب الأخرى في الفيلم، فإنَّني أحبُّ الخروج والابتعاد قليلًا ورؤيةَ كلِّ شيءٍ من الخارج.

ما هي فلسفتك في التعامل مع الممثلين؟ هل تمنحهم حرية الاكتشاف أم تفضل السيطرة الدقيقة على الأداء؟

كلُّ ممثِّلٍ يختلفُ عن الآخر، وعلى المخرج أن يتعامل مع كلِّ ممثِّلٍ بشكلٍ مختلف. هناك ممثلين لا بدَّ من القيام بتوجيههم قبل ذلك، وآخرين ينبغي إعطاؤهم المساحة الكاملة. بالنسبة لي، لا أفضِّلُ السيطرة كثيرًا على فريق التمثيل، فأنت عندما توجِّه الممثِّل كثيرًا قد يمنحكَ شيئًا جيدًا، ولكن عندما تترك له الحريَّة فإنَّه سيمنحك شيئًا جيِّدًا ورائعًا في الآن ذاته. مثلًا عندما عملتُ مع الممثِّل أشرف برهوم، كان يقول في مرَّاتٍ كثيرةٍ إنَّه يريد صنعَ شيءٍ ما هنا، حينها لم أكن أسأله حتى ماذا تريدُ أن تفعل، بل أترك له الحريَّة الكاملة لفعلِ ما يريد.

يحمل الفيلم طيفًا من العبثيَّة الوجوديَّة، خاصَّةً في تعامله مع فعلٍ صادمٍ كـ"قتل الأب"، إذ بدا متأثرًا برواية الغريب لألبير كامو، هل كان كامو ممَّن أثروا فيك؟ ولماذا اخترت أن تتناول هذه الثيمة، وكيف وُلدت فكرة الفيلم؟ عجبًا! لم أفكر بهذا الأمر من قبل، إنَّها من رواياتي المفضلة، ويبدو أنَّني فعلًا تأثَّرت بها، وقد انتبهت لهذا الأمر بعد كلامك. عمومًا عندما أحاول أن أكتب شيئًا، يدور دائمًا حول هذه الثيمات، وغالبًا لا أعرف ما هي القصة بالضبط، تكون هناك حالةٌ وتصوُّرٌ ما في رأسي، ثمَّ أشرع في الكتابة، وعندما أكتب أفهمُ ما هي القصَّة، لذلك فإنَّ الأمر لا يكون عن وعي أبدًا، فلا أختار على سبيل المثال أن أكتب فيلمًا عن الخسارة أو عن الصدمات الإنسانيَّة، فالأمر يحدث على نحوٍ عفوي، ويأتي دون استدعاء. هذا الفيلم مثلًا كتبته في أمستردام حيث جاءني الإلهام في لحظة صفاءٍ وأنا جالس، إذ تخيَّلت أخوين جالسين على شاطئ بحرٍ وما إلى ذلك. بالتالي فإنَّ اختيار الثيمة، وولادة فكرة الفيلم، ليستا شيئًا أفكِّر كثيرًا حوله.

الموت في الفيلم لا يبدو كوسيلةٍ للتحرُّر، إذ حمل رضا جثمان أبيه معه إلى المدينة، فهو أقرب إلى عبء. كيف تقرأ فكرة الموت في عملك، هل هو نوع من الخلاص أم العذاب الأبدي؟ أفكِّر بأنَّ الناس يحاولون فقط معالجة أنفسهم، ولهذا حاول هذان الأخوان معالجة نفسيهما بعد موت والدهما، ولكن في النهاية لم يُفلح الأمر. لهذا حملا التابوت معهما إلى المدينة، لأنَّ الحياة عبء، ولا يهمُّ أن تواجه الحقائق وما إلى ذلك. أعرفُ أنَّ الأمر يساعد أحيانًا، لكن تلك الحقائق ستبقى دائمًا معك، وربما تصبح أكثر خفَّة، لكنَّك ستحملها معك دائمًا كعبءٍ أبدي.

الذاكرة في الفيلم ليست أداةَ تذكّر، بل نوعٌ من العذاب. في المقابل، يبدو النسيان نوعًا من النجاة. هل ترى أنَّ التذكّر فعلٌ إنسانيٌّ شجاع، أم أنَّه شكلٌ من أشكال العجز؟ متى يصبح النسيان خيارًا مشروعًا؟ وكيف تقرأ هذه الثنائيَّة بين رضا وأبو الرشد؟ بالطبع اشتغلت على هذه الثنائيَّة. كنتُ أستكشف فكرة النسيان، هل هي شيءٌ جيد أم سيئ؟ أحيانًا يقولون إنَّ النسيان نعمةٌ وهو كذلك، أجل وبطرقٍ عديدة. ولكنَّك تستطيع بوضوحٍ أن ترى أنَّ رضا هو الشخص الذي يحملُ كلَّ هذه الذكريات معه على مدار الأيام، فهو يحملُ كلَّ شيء ويعاني، ولكن في الوقت نفسه حيثما ذهب يتبعه أخاه، يتأثَّر بكلِّ شيءٍ يقوم به، ولا يستطيع العيش دون الاعتماد عليه.

لذلك عندما نقول إنَّ النسيان نعمة، أجل قد يكون كذلك، ولكن في الوقت نفسه نستطيع رؤية رضا الذي، ورغم حمله كلَّ هذه الأشياء والذكريات معه، يتمكَّن على الأقل من مواجهة الحقائق، وعندما تمتلك فرصةً لمواجهة الحقائق، فهذا يعني أنَّك تملك فرصةً للنجاة، وعندما لا تمتلكها كما هو حال أخيه أبو الرشد، فعلى الأرجحِ لن تنجو. لهذا نراه ضائعًا، لا يستطيع النجاة من دون أخيه. الشخصيَّة التي فقدت ذاكرتها تبدو أكثر تحررًا من التي تتذكَّر. هل ترى في الجنون شكلًا من أشكال الحكمة المتحرِّرة من المنطق؟ صحيح، إنَّه نوعٌ من التحرُّر، لأنَّه وكما نرى، بعد وفاة أبيهما بيومٍ جلس أبو الرشد وقال «هناك شيءٌ فظيعٌ قد حدث بالأمس» فهو يعرف أن هناك شيئًا فظيعًا قد حصل، ولكنَّه لا يعرف ما هو ، فهذه نعمةٌ بالطبع. ما حدث بالتحديد قبل يومٍ واحدٍ هو أنَّ أخاه الصغيرَ قد قتل والدَه أمام عينيه، فاكتفى بالجلوسِ هناك قائلًا: «شيءٌ فظيعٌ قد حدث». إنَّه لا يعرف ما هو الذي حدث، لكنَّه فقط يشعر بالسوء حوله، وفي نهاية المطاف سيتجاوز الأمر. في المشهد الأخير شعر بالتحرُّر وبأنَّه بخير، في حين لم يتغيَّر شيءٌ بالنسبة لأخيه الصغير، فهو ما يزال يعاني من ماضيه، صحيحٌ أنَّ عنوان الفيلم هو «أنا سعيد لأنك ميت الآن»، إلَّا أنَّه ليس سعيدًا حقًا، لأنَّ لا شيء قد تغيَّر.

سحب الجثة، رقصة الفرح، الإيماءات الصامتة… الجسد في فيلمك ينطق دون لغة. هل ترى فيه وسيطًا تعبيريًا بديلًا للكلمة، وكيف تفهم الجسد داخل السينما؟ هل هو أداة ترجمةٍ للمشاعر، أم عنصرٌ سرديٌّ مستقلٌّ يُنتج المعنى بحدِّ ذاته؟ أحاول قدرَ استطاعتي استعمال الفيلم كفيلم، والكلامُ في الفيلم شيءٌ صعب، وعندما أكتبُ حوارًا فيجب أن يكونَ لشيءٍ غاية في الأهمية، وليس مجرَّد وسيلةٍ للتعبير عن المشاعر، لأنَّني أرى أنَّ السينما بنيت من أجل سردِ القصص عن طريق الصورة، لذلك عندما اُضطرُّ إلى جعل الشخصيات تتحدَّث في الفيلم، أشعرُ أنَّني قد فشلتُ كصانع أفلام.. إذن فالحوارات في فيلمي ليست مباشرة بالمعنى التقليدي. كان باستطاعتي جعل الشخصيَّات أكثر مباشرة، مثل أن يقولوا إنَّهم كانوا ضحايا اعتداءٍ جنسيٍّ من قبل والدهم، لكن هذا ليس مثيرًا للاهتمام لأنَّه لا يحدثُ في الحياة الواقعيَّة. نحن في الحياة الواقعيَّة لا نتحدَّث عن مشاعرنا كثيرًا، فهي مخزَّنةٌ داخل أجسادنا. عندما تقابل أختك وتسألها هل أنتِ بخير؟ ستقول نعم، وبدورك ستجدُ نفسك قادرًا على الرؤية بوضوحٍ أنَّها ليست كذلك، وستعرف سبب ذلك لأنَّها تتصرَّفُ بطرقٍ معيَّنة. الجسدُ إذًا بالنسبة لي قادرٌ على أن يقول أكثر بكثيرٍ ممَّا قد تقوله أيَّة كلمة. والقصة هنا تحدثُ عندما لا يتكلمان، بل عندما تتحدَّثُ الأفعال.

فيلمك قصيرٌ من حيث الزمن، لكنَّه كثيفٌ بالشاعريَّة والرمزيَّة، ويتَّسم بإيقاعٍ بطيءٍ يشبه الطقس التأمُّلي، مع استخدامٍ مكثَّف لرموزٍ مثل "الليمون"، "الصندوق"، و"الميناء" دون شرحٍ مباشر؛ كيف توازن بين الإيجاز والعمق، بين الصورة والتأويل؟ وهل ترى في الإيقاع والرمز وسيلةً لتقريبِ المشاهد من التجربة، أم لإبقاء الغموض حيًّا دون الإخلال بعلاقةِ الفيلم مع المتلقِّي؟ لا أحبُّ الغموض على الإطلاق، أعرف أنَّ الفيلم غامضٌ وما إلى ذلك، ولكن مردّ هذا هو أنَّ الفيلم قصير، وفي الفيلم القصير لا تريد أن يكونَ هناك كلامٌ كثير - والأمر كذلك بالنسبة للأفلام الطويلة - بل إنَّ ما تريده من المشاهدين هو أن يحصل كلَّ واحدٍ منهم على قصَّته الخاصَّة. بالنسبة لي، أعرف ما هي القصة، ولكن من الضروريِّ لكلِّ مشاهدٍ أن تكون له قصَّته أيضًا. لذلك عندما يسألني الناس ما الذي تقصده بهذا أو بذاك، أجدُ نفسي غير قادرٍ على قول شيءٍ لهم، لأنَّني أريدهم أن يشعروا بما يشعر به الأخوين في الفيلم، أن يحصلوا على نسختهم الخاصَّة من القصة، وإذا أتى هذا الفهم من خلال رموزٍ فلا بأس. بالنسبة لي، هذه ليست رموزًا بالمعنى الحرفي على الإطلاق، فعلى سبيل المثال، للَّيمون تأثيرٌ خاصٌّ وحقيقيٌّ يعودُ إلى أيَّام صباهما. هذا رمزٌ بالنسبة للناس، ولكنَّه ليس كذلك بالنسبة لي، وفي كلِّ مرَّةٍ أشاهد الفيلم مع جمع من الناس أجدُ لديهم قصصًا مختلفةً وتأويلاتٍ متعدِّدة حول معنى الليمون وما إلى ذلك، وهذا مثير للاهتمام، فأنت كمشاهدٍ يجب أن تحصلَ على قصَّتك الخاصة.

في عالمٍ مشبعٍ بالأجوبة السطحيَّة، هل ترى أنَّ دور السينما اليوم هو أن تنكأ الجروح وتطرح الأسئلة بدل تقديم الحلول؟ وما الذي يدفعك لصنعِ فيلم؟ أعتقد أنَّني أحاولُ صنع فيلمٍ لأنَّه أداةٌ عظيمةٌ لجعل الناس يفكِّرون، والسينما واحدةٌ من التجارب القليلة التي تمكِّنك من عيشِ قصصٍ لن تعيشها في حياتِك الطبيعية، فأنتَ لستَ بحاجةٍ لمغادرة السينما أو المنزل من أجلِ عيشها، ورغم ذلك تستطيعُ كليًّا أن تختبر حياةً مختلفةً عن حياتك. السينما طريقةٌ للتعبيرِ والاتِّصال بين الناس، إذ يستطيع المرء أن يقرأ كتابًا أيضًا وهذا شيءٌ عظيم، لكن هناكَ شيءٌ حول السينما يجعل الأمر مختلفًا. لا أدَّعي امتلاكي للأجوبة والحلول وما إلى ذلك، فأنا أكتفي بطرح الأسئلة وحسب، لأدفع الناس إلى التفكير دون محاولة السيطرة على وعيهم، وهذا وبكل أسفٍ يحدث أحيانًا في الأفلام، مثلما تصوِّر السينما الأمريكية كلَّ الروس أشرارًا أو كلَّ العرب إرهابيين، حتى أصبح هذا أمرًا مسلَّمًا به، فأنت عندما تفكر بالإرهابي تتصوَّر العربي، ومن السيئ أن تُستَخدم السينما بهذه الطريقَة.

ما الذي مثَّله لك اختيار الفيلم لمهرجان كان؟ هل ترى هذا التقدير خطوةً نحو فضاءٍ سينمائيٍّ جديدٍ في تجربتك؟

أن أكون في "كان" هو أمرٌ يجعلُ طريقي ممكنًا، لا أقول سهلًا لأنَّ الصعوبات ستحضرُ دائمًا، ولكنَّه خطوةٌ مهمَّةٌ في الطريقِ الصحيح، خاصَّةً كممثِّلٍ أراد دائمًا صنع فيلم. عادة ما يتمُّ التعاملُ معكَ على أنَّك الممثِّل الذي يريدُ صنع فيلم، وهناك الكثير من الذين يريدون صنع فيلم ولهذا أتفهَّم الأمر. بيد أنَّ التواجد في كان سيجعلُ الأمر أكثر جديَّة، وسيفكر الناس بأنَّ هذا الشخص سيصنع فيلمه معنا أو بدوننا، وهذا أمرٌ رائع. أن تكون هنا هو امتيازٌ بحدِّ ذاته، فلا يوجدُ مكانٌ أعلى قيمةً من مهرجان كان، فهو بالنسبة لي يمثِّلُ القمَّة لأنَّه ينحاز إلى الأفلام والسينما الجيِّدة دون أن يكون متبنِّيًا لسياسةٍ معيَّنة. على العموم، في السنوات الأخيرة، دائمًا ما كان هذا المهرجان بمثابة بيتٍ لي، فبدايتي معه كانت من خلال فيلمين لعبتُ فيهما دور الممثِّل، ومن الجيِّد الآن أن يكون لديَّ فيلمي الخاص في المسابقة الرسميَّة.

أخيرًا هل هناك عمل جديد في طور الكتابة أو التكوين؟ أجل لديَّ فيلمٌ طويلٌ جديدٌ قادم، ولكنَّني لا أستطيع قول الكثير عنه، لأنَّني أعرف أن هذا الفيلم سيضعني في العديد من المشكلات، لكن مع ذلك لا بأس بالنسبة لي. ما أقصدهُ هو أنَّ أي شيءٍ تفعله في الحياة قد يوقعك في المشكلات، وعندما تحاول استخدامَ الأفلام لجعلِ الناس يفكرون فستقع في المتاعب بلا شك، وهذا شيءٌ أعيه جيدًا وأتوقعه. لا أقول إنَّني أبحث عن المتاعب بالطبع، لكنَّني فقط أعي أنَّها ستكون موجودة.

بدعم من مبادرة سينماء, نُشرت هذه المقالة أيضًا في منصة ميم السينمائية.

 

####

 

جيروم بايّار: السر يكمن في العودة إلى الجذور

قيس عبداللطيف

لأكثر من عقدين من الزمن، وقف جيروم بايّار في مركز الصناعة السينمائيَّة العالمية، بصفته المدير التنفيذي لسوقِ الإنتاج في مهرجان كان السينمائي. شخصيَّةٌ ذات حضورٍ هادئٍ ومعرفةٍ موسوعية، لطالما تابع بايّار حركة السينما بوصفِها منتجًا ثقافيًا ومنظومةً حيَّةً متكاملة، وسلسلةً من التفاعلات البشريَّة، ومرآةً تعكس التحوُّلات المجتمعيَّة.

وصل جيروم إلى المهرجان في لحظةٍ بدأ فيها الوعي يتنامى بأهميَّة سوق الإنتاج بوصفه ركيزةً مكمِّلة للمهرجان، فالعلاقة بينهما علاقة تكامل، إذ بوسعهما أن يغذِّيا ويعزِّزا بعضهما البعض. بالنسبة للمهرجان، من الضروري أن تثمر الأفلام مردودًا اقتصاديًّا من خلال السوق، بينما يُشكل المهرجان، بالنسبة للسوق، القوَّة الدافعة والمحرِّك الأبرز للزخم السينمائي.

خلال فترة رئاسته، شهد سوقُ المهرجان تحوُّلاتٍ كبيرةً حيث تمَّ تشييد مبنى "الريفييرا" خلف قصرِ المهرجانات، ما أتاح استقطاب عددٍ كبيرٍ من الشركات وشبكات المنتجين، ليصبح فضاءًا خصبًا تتنوع فيه البرامج، ويحظى باعترافٍ دوليٍّ وأهميَّةٍ كبيرةٍ على مستوى العالم. وحقق إنجازاتٍ هائلةً كانت شهادةً بارزةً على الدور الحاسم والمحوري الذي لعبه بايَّار في أرض المهرجان، وعكس تفانيًا غير محدودٍ وموهبةً كبيرةً وإبداعًا متجدِّدًا. كما نجح، من خلال قيادته الحكيمة، في نقل السوق من كونه مجرَّد صفقاتٍ تُعقد في الغرف الجانبيَّة إلى صرحٍ رئيسيٍّ كاملٍ يلتقي فيه الإبداع مع فرص الدعم الكبيرة والهائلة، وتجتمعُ فيه المواهب الواعدة مع منتجين متحمِّسين لكلِّ المشاريع المبدعة، فصار ملتقى مركزيًا وموعدًا متجدِّدًا للتجارة العالميَّة للفيلم يضمُّ آلاف المشاريع والمشاركين وممثِّلي الدول من موزِّعين ومنتجين، متيحًا إمكانيَّة مراقبة زخم الصناعة وتوجُّهها وإلى أين تمضي، والاتجاهات الجديدة وتغيُّر القوى الفاعلة وطرق التمويل. وهكذا لم يعد مجرَّد مساحةٍ تجاريَّة، بل صار مؤشِّرًا دقيقًا على تحوُّلات الاقتصاد السينمائي العالمي.

انطلاقًا من صالات العرض، ولقاءات النجوم وصناع الأفلام على ساحل البحر الأبيض المتوسط في "كان"، وصولًا إلى أدوارٍ استشاريَّةٍ في منطقة الشرق الأوسط، كان تأثير بايار متجاوزًا لحدود الثقافة والانتماء، حيث راقب بنظرته المتبصِّرة وخبرته الكبيرة كيف تتحوَّل الشاشة الكبرى إلى مرآة تعكسُ قلقَ الإنسان المحلي، وتترجم التحوُّلات الاجتماعيَّة والسياسيَّة في عالمٍ سريع التغيُّر. لقد تجاوز دورَه التنسيقيَّ أو التنظيمي، ليلامس جوهر العمليَّة الإبداعيَّة، بوصفه وسيطًا بين الرؤية الفنيَّة وواقع الصناعة.

من مدينة "كان" الفرنسية، حيث تتلاقى رؤوس الأموال والرؤى الجماليَّة، إلى صالات العرضِ الجديدة في الخليجِ العربي، تردَّد صدى حضور بايّار ورؤيته، مستشرفًا الحراك السينمائي الذي أخذ يتشكَّل في منطقةٍ لم تكن يومًا جزءًا أساسيًا من الخارطة السينمائيَّة العالميَّة. ومع إعادة افتتاح دور العرض في السعودية عام 2018 بعد حظرٍ دام أكثر من ثلاثة عقود، وولادة مهرجان البحر الأحمر السينمائيِّ الدولي، بدا المشهد كما لو أنَّه يكتب فصلًا جديدًا في علاقة المجتمع العربي بالسينما، لا كترفيهٍ فقط، بل كحاجةٍ ثقافيَّةٍ وتعبيريَّة.

حين حضر بايّار الدورة الثالثة لمهرجان البحر الأحمر، التقطَ ما لا يلتقطه إلا العارفون: جمهورٌ حقيقي، عطشٌ للتعبير، ونبضٌ يتجاوز الحدث العابر. كان ذلك، في نظره، تأكيدًا لما آمن به طويلًا: أنَّ السينما ليست منتجًا مُعولمًا فحسب، بل خطابٌ محليٌّ يرتكز على ثقافة ثرية ويعبِّر عنها.

في هذه المقابلة، التي أُجريت معه خلال زيارته الأخيرة لمهرجان أفلام السعوديَّة في دورته الحادية عشرة المقامة في مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي "إثراء"، يتأمَّل بايّار لحظة تشكُّل المشهد السينمائي السعودي، ويقاربها بعيونٍ ترى في صالات العرض مساحاتٍ للذاكرة الجماعيَّة، وفي المهرجانات بواباتٍ لسينما أصيلة، قادرةٍ على التحرُّر من الحسابات التجاريَّة الضيِّقة، والعودة إلى جوهر الفن: الإنسان.

قيس: هل هذه زيارتك الأولى إلى المملكة العربية السعوديَّة؟ وهل سبق أن كانت لكَ نظرة عن قرب على المشهدِ السينمائيِّ السعودي؟

جيروم: هذه ليست زيارتي الأولى إلى السعوديَّة، فقد حضرتُ فعاليَّات الدورة الثالثة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي. كانت تجربةً سريعة، لكنَّها تركت أثرًا واضحًا لدي. منحتني تلك الزيارة إحساسًا واضحًا بأنَّ هناك شيئًا حقيقيًّا يحدث، لا ينطلقُ من المؤسَّسات وحدها، بل يتشكَّل من داخل المجتمع نفسه.

قيس: لك تاريخ طويل مع المهرجانات السينمائية في أوروبا، والعالم، ولك تجربة في العالم العربي أيضًا. بناءً على هذه التجارب، كيف تقيم السينما السعودية اليوم؟

جيروم: سؤالٌ مهِم، وأريد الإجابة عليه من خلال عقدِ مقارنة، لأنَّ المقارنةَ بين تجربتين أو أكثر تكشفُ بعض التفاصيل. كنت أحرصُ على الحضور بانتظام في مهرجانَي دبي وأبو ظبي السينمائيَّين خلال سنوات نشاطِهما، وذات مرَّةٍ عملتُ مستشارًا لأحدهما، لذا أستطيع الإدِّعاءَ بأنَّني أعرف بيئة السينما الخليجيَّة إلى حدٍ ما.

ما لاحظته في السعوديَّة يختلفُ من حيث الجوهر: على سبيل المثال، كانت المهرجانات في الإمارات منظَّمةً بشكلٍ ممتازٍ ومموَّلةً بسخاء، لكنَّها كانت تبدو في كثيرٍ من الأحيان أشبه بمنصَّاتٍ موجَّهة للجاليات الدوليَّة المقيمة هناك من دبلوماسيين، ووافدين ومهنيِّين من خارج البلد. لم تكن العلاقة مع الجمهور المحليِّ عميقةً دائمًا.

أمَّا في السعودية فالمسألة مختلفة: التجربة السينمائيَّة هنا تتجاوزُ حدود شاشات العرض والسجَّادة الحمراء، وبالتالي فثمَّة شيءٌ متجذر هنا. للمملكة هويَّةٌ ثقافيَّةٌ واضحة، حضورٌ قويٌّ للمكان وتجلٍ للانتماء إليه، والجمهور الذي التقيته في مهرجان البحر الأحمر جمهورٌ حقيقيٌّ يعبِّر عن ثقافته المحليَّة بفخر. ما لفتني خلال زيارتي الأخيرة لم يكن برنامج المهرجان فحسب، وإنما الجمهور، وخصوصًا الشباب. لم يأتوا بحثًا عن الترفيه فقط، بل جاؤوا بانتباهٍ وفضولٍ واستعدادٍ حقيقيٍّ لمشاهدة طيفٍ واسعٍ من الأفلام. إنَّ هذا النوع من الجماهير لا يمكن صناعته، فهو دلالةٌ على وجود ثقافةٍ حقيقيَّةٍ وحيَّة. هنا يكمن الفارقُ بين إقامةِ مهرجانٍ سينمائيٍّ وبين بناءِ ثقافةٍ سينمائيَّة.

قيس: هل فاجأك هذا النوع من التفاعل، خصوصًا من الجمهور الشاب؟

جيروم: لم أُفاجأ تمامًا، كنت أرجو ذلك. وسعدت جدًا بأنَّ ما كنت أتمناه رأيته متحقِّقًا أمام عينَي. الشباب الحاضرون لم يكونوا سلبيِّين، لم يتصنَّعوا الدهشة أو المشاعر التي رأيتها على وجوههم، كان تفاعلهم حقيقيًا وجادًا يعبِّر عن حماسهم للسينما ورغبتهم في التعلُّم والمعرفة والاستمتاع برؤيةِ ثقافاتِ العالم حاضرةً أمامهم. يمكنكَ أن تلاحظ ذلك من طريقة مشاهدتهم، من الأسئلة التي طرحوها بعد العروض، وحتى في الأحاديث العابرة التي دارت حول الأفلام. هذا النوع من التلقِّي يشير إلى رغبةٍ فعليَّةٍ واستعدادٍ لتلقِّي السينما بكلِّ ما تحمله من تعقيد.

قيس: هل تعتبرُ أنَّه من المدهش، في الثقافة السينمائيَّة السعودية، تفاعل الجمهور مع السينما العالمية؟ الكثير من الشباب، وحتى قبل فتح أبواب صالات العرض، يشاهدون أعمال غودار وتروفو، كوروساوا وسكورسيزي؟ كيف تفسر هذا الانفتاح على لغةٍ سينمائيَّةٍ يمكن القول إنَّها بعيدةٌ جغرافيًا وثقافيًا عنهم؟

جيروم: أظنُّ أنَّ غياب السينما نفسه قد عمَّق من توق الشباب السعوديين إلى السينما العالميَّة. عندما يُمنَع شيءٌ ما، لا لأسباب فنيَّة وإنَّما اجتماعيَّة أو سياسيَّة، فإنَّ ذلك يخلق توترًا؛ وهذا التوتُّر ينعكس في صورة فضولٍ وحنين، وأحيانًا نوعًا من التقديس. هؤلاء الشباب لم يعيشوا في فراغٍ سينمائي. كان لديهم الإنترنت والقنوات الفضائية، وربَّما الأهم من كلِّ ذلك: الخيال.

كانوا يعرفون أسماء مثل غودار وتروفو وفيلليني وكوروساوا حتَّى وإن لم يشاهدوا أعمالهم على الشاشة الكبيرة. أعتقدُ أن كثيرًا منهم تابع هذه الأفلام على الحواسيب، أو الهواتف، أو عبر أقراصٍ مقرصنة، وبالتالي فإنَّ الرغبة بالمعرفة كانت دائمًا موجودة. ما كان غائبًا هو التجربة الجماعيَّة، لحظة المشاهدة المشتركة-الشاشة الكبيرة، النقاش الذي يلي فيلمًا مؤثرًا. حين أصبح ذلك ممكنًا، كان الشغف جاهزًا سلفًا. وعندما تبدأ من خلال هذا النوعِ من التوق، فإنَّ التفاعل غالبًا ما يكون عميقًا.

قيس: هل تعتقدُ أنَّ هذا التوق إلى السينما يشير إلى شيءٍ أعمق - ربَّما بعدٌ ثقافيٌّ أو حتى فلسفيٌّ في الطريقة التي يتعامل بها السعوديُّون مع السينما؟

جيروم: أجل أعتقدُ ذلك. حتى وإن لم أزعم أنَّني أعرف الثقافة السعوديَّة عن كثب، إلا أنَّني أشعرُ أنَّها ثقافةٌ غنيَّة، تحملُ في طياتها ذاكرةً وقصصًا وتجذُّرًا واضحًا، وهذا أمرٌ جوهري. حين تمتلك المجتمعات إرثًا ثقافيًَا متماسكًا وتصيغه بطريقتها الخاصة عندما تنظر إلى العالم، فإنَّها تميل إلى الانفتاح المتأنِّي على الآخر. الفضولُ الذي ألمسه هنا لا يقوم على تقليد الخارج، إنَّما على الرغبة في محاورته وفهمه. هناك ميلٌ إلى الحوار، وميلٌ إلى التفاعل العابر للثقافات. وهذه التربة، في نظري، هي ما تنمو فيها السينما التي تبقى وتؤثِّر.

قيس: أشرت سابقًا إلى السينما بوصفها مساحةً لتبادل الثقافات. هل ترى أنَّها في جوهرها فنٌّ للحوار بين المجتمعات؟

جيروم: بكلِّ تأكيد، السينما من أكثر الفنون سخاءً لأنَّها تتيح لنا تجربة عيش حياة الآخرين، حتى وإن كان ذلك لساعةٍ ونصف الساعة فقط. السينما لا تقتصرُ على رواية القصص، بل تنقلُ الأحاسيس، والانفعالات والأفكار. سواء كانت القصَّة تدور في نابولي أو جدة أو كيوتو، فهي تمنحنا نافذةً لفهم الآخر بشكلٍ أعمق، وهذا ما يمنحها بعدًا كونيًا. بالنسبة لي، السينما هي لغة تعاطفٍ مع الآخر تتجلَّى في صورة.

قيس: منذ حضورك إلى مهرجان البحر الأحمر السينمائي قبل عامٍ ونصف، هل أتيحت لك فرصة متابعة أفلامٍ سعوديَّةٍ عن كثب؟

جيروم: أجل، فبعد زيارتي تكوَّن لديَّ اهتمامٌ خاصٌّ بالتجربةِ السعوديَّة. ولكن قبل ذلك سأحدِّثك عن تجربةٍ أقدم: كنَّا قبل قليلٍ نتحدَّثُ عن فيلم وجدة الذي عُرض عام 2013. أتذكَّر جيدًا حين شاهدته للمرة الأولى، كانت مفاجأةً حقيقيَّة، وأعني ذلك بأفضل معنى ممكن. كان إشارةً من مكانٍ لم نكن نسمع منه صوتًا سينمائيًّا واضحًا من قبل. أتى من بلدٍ لم يكن العالم السينمائيَّ يرى منه ما هو أكثرُ من السردِ الروائي. الفيلم كان رقيقًا وشجاعًا في الآن نفسه، والصوت الشخصي طاغٍ عليه.

لو شاهدته الآن، ربما كنت لأحكمَ عليه من زاويةٍ تقنيَّةٍ أكثر صرامة، وربما لن أراه بنفس الانبهار. لكن ما كان يمثله في تلك الأثناء، والظرف الذي خرج فيه، منحَه ثقلًا عاطفيًّا لا يُنسى. ما زلت أحتفظ به في ذاكرتي بكلِّ وضوح. وهذا بحدِّ ذاته أمرٌ مهم.

بالأمس فقط شاهدت فيلمًا سعوديًّا جديدًا بعنوان ثقوب. وجدته عملًا واعدًا، وفيه عناصر جذبٍ واضحة. الأداء التمثيليُّ على وجهِ الخصوص كان قويًا. لكن من زاويةٍ أوسع شعرتُ أنَّ الفيلم ينتمي إلى سينما ما زالت في طورِ التشكُّل، سينما تتلمَّس طريقها. فيه ملامح الأعمال الأولى: الطموح، الصدق، وربَّما جرعةٌ زائدةٌ من الحماسة.

قيس: حماسة زائدة؟ في أيِّ جانب؟ السرد مثلًا؟

جيروم: تمامًا. رأيتُ هذا النمط يتكرَّر في عددٍ من التجارب السينمائيَّة الناشئة حول العالم. على سبيل المثال، أعملُ كثيرًا مع مخرجين من الهند، قرأت مؤخَّرًا سيناريو لمخرجٍ شابٍّ من هناك. غالبًا ما أجد لدى هؤلاء الرغبة في إدخال كلِّ شيءٍ داخل فيلمٍ واحد: عدَّة خطوطٍ سرديَّة، موضوعاتٌ متنوِّعة، مستوياتٌ عاطفيَّة مختلفة، وتعليقاتٌ اجتماعيَّة. النتيجة في كثير من الأحيان تكون ازدحامًا سرديًا. تستطيعُ أن تشعر بأنَّ الفيلم يحاول إخراجَ كلِّ ما ظل متراكمًا بداخله لسنواتٍ دفعةً واحدة.

هذا أمرٌ مفهوم، خاصَّة في البيئات التي بدأت للتو في اعتبار السينما وسيلة تعبيرٍ متاحة. ولكن مع مرور الوقت، تنشأ حالةُ من النضج، يتعلَّم المخرجُ أنَّ القصة البسيطة، عندما تُروى بإتقان، قد تكون أبلغ أثرًا من خمسِ قصصٍ متشابكة. يتعلَّم كيف يختار، وكيف يتركُ مساحاتٍ للتنفُّس داخل العمل.

وبالمناسبة، لا أقول هذا كنوعٍ من النقد المباشر لفيلم ثقوب، بل أراه ضمن سياقٍ طبيعيٍّ يمرُّ به أيُّ مشهدٍ سينمائيٍّ في طور النشأة. المهم أنَّ هناك حركة، وهناك من يعملُ ويجرب.

قيس: بالنظر إلى هذه المرحلة، ما هي أبرزُ التحدِّيات التي قد يواجهها صانعو الأفلام السعوديُّون؟ هل تنصحهم بالانفتاح على تجارب الخارج، أم بتركيزِ الجهد على ترسيخِ مسارٍ محلي؟

جيروم: هذا سؤال مهم. في كثير من النواحي، سيواجه صناع الأفلام السعوديون التحدِّيات التي يعرفُها كلُّ من يعمل في هذا المجال: التمويل، بناء فرق العمل، الوصول إلى الجمهور. ولكن من ناحيةٍ أخرى، تبدو الطريقُ ممهَّدةً إلى حدٍ ما، فالدعمُ الحكوميُّ حاضر. من خلال ما أراه، هناك التزامٌ واضحٌ من الجهات الرسميَّة والمؤسَّسات الثقافيَّة بدعم السينما الوطنيَّة، وهذا يصنع فرقًا كبيرًا. عندما تتوفَّر البنية التحتيَّة من كليَّاتٍ متخصِّصة، منحُ إنتاج، برامج احتضان، فإنَّها تمنحُ الجيل الجديدَ مساحةً للتجريب، للوقوعِ في الخطأ، ولإعادة المحاولة من جديد.

أجل، لا شكَّ أنَّ الصعوبات ستبقى، كما هو الحال في كلِّ مكان. لكن الطريق هنا، وإن لم تكن خاليةً من العقبات، فهي أكثر وضوحًا من تلك التي يضطرُّ كثيرٌ من صنَّاع السينما في دول أخرى إلى شقِّها وحدهم، من دون نظامٍ داعم.

قيس: تحدَّثت عن وفرة القصص التي لم تُروَ بعد في السعودية. هل ترى في ذلك ميِّزة؟

جيروم: بكلِّ تأكيد. من التحديات التي تواجه السينما في البلدان التي بها صناعةٌ ذات تاريخٍ راسخٍ وطويلٍ هي وجودُ حالةٍ من التشبُّع. كم مرَّةً يمكنُ إعادة سردِ قصَّة الملل الطبقي في شقَّةٍ باريسيَّة، أو كاتب السيناريو المكافح في لوس أنجلوس؟ في المقابل تبدو السعوديَّة، من زاويةٍ سينمائيَّة، وكأنَّها بلدُ المسودَّات الأولى. هذه ميزةٌ حقيقيَّة. هناك خزَّانٌ من الحكايات - شخصيَّة وسياسيَّة وتاريخية - ما زالت تنتظرُ من يُحوِّلها إلى أفلام.

وفوق ذلك، هناك جمهورٌ محليٌّ متعطِّشٌ لهذه القصص وهذا عنصرٌ حاسم. في بعض البلدان، يُجبر المخرجون على مواجهة ما يشبه الإرهاق الثقافي. أما هنا، فالشعورُ مختلف تمامًا. الناس يريدون أن يروا أنفسهم، وجيرانهم، وماضيهم، وحياتهم الراهنة على الشاشة. هذا التوق يصنعُ شعورًا بالإلحاح والصدق يصعب استحضاره بوسائلَ مصطنعة.

قيس: هل تعتقد أنَّ الجمهور المحلي منخرطٌ فعلًا في السينما السعوديَّة؟

جيروم: من خلال ما رأيت، نعم. هناك تفاعلٌ حقيقي، بل وما هو أعمق من ذلك، هناك شعورٌ بالفخر. أظنُّ أنَّ الناس هنا لديهم فضولٌ تجاه تجاربهم السينمائيَّة الناشئة، بل ولهم رغبةٌ في حماية تلك التجارب التي هي تجسيد لمرحلة البدايات. هذه طاقةٌ ينبغي رعايتها، ليس من الضروري أن يكون الفيلم موجَّهًا إلى جمهورٍ عالمي، فثمَّة قيمةٌ كبيرةٌ في صناعة أفلامٍ تخاطبُ المجتمع المحلي، وتعكس تفاصيلَ الشوارع والأحداث المألوفة.

قيس: ومع ذلك، هل ترى أنَّ الانفتاح على العالم ذا أهميَّةٍ في هذه المرحلة؟

جيروم: بلا شك. الانفتاح مهم، ودائمًا ما كان كذلك. السفر، والمشاركة في المهرجانات، والتفاعلُ مع تقاليد جماليَّة مختلفة… كلُّها تجارب توسِّع من الأفق الإبداعي، تختبرُ الحدس الفنيَّ وتعمِّق أدوات التعبير. أنصحُ دائمًا صناع الأفلام بالبحثِ عن وجهات نظرٍ أخرى، لا من باب التقليد، إنَّما لإيجاد فرصةٍ للتفكير بأسلوبٍ مختلف.

وهذا لا يعني التخلي عن الجذور. بعضُ القصص مكانها الطبيعي أن تبقى مرتبطة ومتصلة بجذورها، قد لا تُترجم بسلاسةٍ إلى سياقاتٍ ثقافيَّةٍ أخرى، وهذا لا يقلِّل من قيمتها. ليس من الضروري أن يكون لكلِّ فيلمٍ جمهورٌ عالمي. لكن عندما يرغبُ المخرج في الوصولِ إلى أفق أوسع، وأن يكون لعمله أثرٌ يتجاوزُ الحدود، فإن التجربة العالميَّة، والتعاون والحوار، تصبح أدواتٍ أساسيَّة.

قيس: في العام الماضي، عُرض فيلمٌ سعوديٌّ بعنوان "نورة" في مهرجان كان السينمائي. الفيلم يحمل طابعًا هادئًا وحميميًّا، وتدور أحداثه في مشهد طبيعيٍّ مهيبٍ بمنطقة العلا. لم يكن ضمن المسابقة الرسميَّة، لكنَّه لقي تصفيقًا حارًا واهتمامًا من قبلِ بعض النقَّاد الفرنسيين. كيف تقرأ هذه الإشارات؟ هل ترى أنَّ على صنَّاع الأفلام السعوديَّين أن يطمحوا إلى مهرجاناتٍ عالميَّة؟

جيروم: الجواب في التوازن. إذا استطاع فيلمٌ عبورَ الحدود، وإيجاد جمهورٍ عالمي، وكذلك الوصول إلى منصَّةٍ مثل مهرجان كان السينمائي، فهذه نتيجةٌ جميلة. هذا النوع من الحضور يمنحُ العمل بُعدًا إضافيًا، ويفتح الأبواب، بل وقد يسهِم في رسم ملامح السينما الوطنيَّة في الوعي العالمي.

لكن من الضروري ألا تتحوَّل المهرجانات الكبرى إلى غايةٍ قائمةٍ بذاتها. هي إحدى المسارات الممكنة وليست المسار الوحيد. هناك حكايات تنتمي إلى بيئتها، تحملُ في لغتها وشعورها وإشاراتها ما يخاطب جمهورًا محدَّدًا، محليًّا أو إقليميًّا. وهذا ليس تقليلًا من قيمتها، بل لها معايير نجاحٍ مختلفة.

ما يصنع الفارق هو الوضوح. على المخرج أن يعرف نوعَ القصَّة التي يريد روايتها، ونوع الأثر الذي يتطلَّع إلى تركه، وكذلك طبيعة الجمهور الذي يتوجَّه إليه بخطابه. هذا التفكير لا بدَّ أن يبدأ من اللحظة الأولى، لا في نهاية المسار. حين يُصنع الفيلم فقط لإرضاء لجان التحكيم، قد يفقد شيئًا من روحه في الطريق. لكن عندما يصل الفيلم إلى جمهورٍ واسعٍ بشكلٍ طبيعي، لأنَّه صادق ومؤثِّر، فإن الأبواب تُفتح أمامه تلقائيًا.

قيس: هل أتيحت لك فرصة مشاهدة فيلم نورة؟

جيروم: للأسف، لم أتمكَّن من مشاهدته، لذا لا أستطيع تقديمَ رأي مباشرٍ فيه. لكنَّني سمعت عن العرض وعن ردود الفعل التي رافقته، وأعتقد أن هذا مؤشِّرٌ مبشِّر. أن يلتقي جمهورٌ ما في "كان" بقصَّةٍ من العلا، وأن يتفاعل معها عاطفيًّا، فهذا يعني أنَّ هناك صدى يتجاوزُ اللغة والمكان. وهذه لحظةٌ تستحقُّ الانتباه.

قيس: بعد عقودٍ من العمل في صناعة السينما عالميًا، ما الرسالة التي تود إيصالها لصنَّاع السينما السعوديِّين، لا سيَّما أولئك الذين يبدؤون اليوم في تشكيل هويَّةٍ سينمائيَّةٍ جديدة؟

جيروم: الصبر. هذه هي الكلمة الأولى؛ السينما تحتاجُ إلى وقت. بناء الصوت الشخصي، تطوير اللغة البصريَّة، فهم كيفيَّة تشكيل القصة، كلُّها مساراتٌ تتطلَّب التمهُّل والتواضع.

كذلك القرب من الجذور. لا حاجة لتكرار ما قامت به سينماتٌ أخرى. السينما الفرنسية صاغت هويَّتها من تاريخِها وإيقاعِها ومرجعيَّاتها. السينما الإيرانية وجدت صوتها الخاص حين تعاملت مع ظروفها، وصاغت أشكالًا سرديَّةً من داخل بيئتها.

ما ستؤول إليه السينما السعوديَّة يجبُ أن يستند إلى التجربة السعوديَّة، إلى إيقاعها وصمتها وتناقضاتها. على المخرج أن يكون صادقًا في ما يقوله عن مجتمعه، فضوليًّا تجاه بيئته، ومؤمنًا بأنَّ لحكايتِه قيمة، لأنَّها خرجت من قلبه، ومن أرضه.

*****

مع نهاية الحديث، بدت كلمات جيروم بايّار أشبه بمراجعةٍ متأنِّية لمسيرةٍ فنيَّةٍ لا تُقاس فقط بعدد الأفلام أو المهرجانات، بل بقدرةِ السينما على التشكُّل من صلب هذا النسيج الثقافي الثري. كان حديثه أقرب إلى تأمُّلاتٍ هادئةٍ في جوهرِ التجربة السينمائيَّة، حيث أشار إلى ثلاثِ قيمٍ تأسيسيَّة: الصبر في مراحل التكوين، الارتباط العضوي بالبيئة والذاكرة المحليَّة، والقدرة على مقاومة الإغراءات السطحيَّة للتقليد أو الاستنساخ.

في بلد يملكُ ثقافةً ثريَّةً مثل السعودية، حيثُ تتشكَّلُ السينما أمام أنظار جمهورٍ متلهِّف، تأتي هذه الأفكار في توقيتٍ دقيق، حيث تبرزُ السينما كمرآةٍ دقيقةٍ تعكسُ تحوُّلات مجتمعٍ يخطو خطواتٍ ثابتةٍ إلى الأمام بينما يستذكر ويسترجع ماض حافل، في مشهدٍ سينمائيٍّ ناشئٍ لا يقاس بالأفلام المنتَجة، بل بالسياق الذي تظهر وتنمو فيه هذه الأفلام من خلال الأسئلة التي تطرحها، واللغة التي تبتكرها للتعبير عن الذات والمجتمع.

لقد لامس بايّار هذه اللحظة المفصليَّة، مدركًا أنَّ التحدِّي الحقيقيَّ أمام المخرجين السعوديِّين لا يكمن فقط في إنجاز الفيلم، بل في إنتاج معنى محلي ينبع من الجذور، من اللهجة، من الذاكرة، ومن اليوميِّ والمألوف.

"أن تروي قصَّتك"، كما أشار، هو الفعل الأول في صناعة سينما أصيلة، حيث يبدأ هذا المسار السينمائي من إيمان المخرجين العميق بأنَّ قصصهم تستحقُ أن تُروى، وتفكير في جمهور توَّاق للفرجة، متحمس لهذا التلقي الفني.

المهرجانات قد تتغيَّر، والتصفيق قد يخفت، لكنَّ الأصوات الصادقة، المتَّصلة بالمكان والذاكرة والتجربة، تبقى وتُحفظ. في ظلال الشاشة تبدأ الحكايات، لا كصورٍ فحسب، بل كإرثٍ يُعاد بناؤه وتشكيله. وما تشهده السينما السعوديَّة اليوم هو بدايةٌ حقيقيَّةٌ لمستقبلٍ يحملُ الكثير من الإمكانات، وانبثاقٌ لمشروعٍ ثقافيٍّ طويل النفس، يُرسي أسُسَه جيلٌ واعدٌ يصنع لنفسه مكانةً لامعةً في خريطة السينما العالميَّة.

بدعم من مبادرة سينماء, نُشرت هذه المقالة أيضًا في منصة ميم السينمائية.

 

موقع "سينماء" السعودي في

20.05.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004